الباحث القرآني

﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ . الفاءُ فَصِيحَةٌ. والتَّقْدِيرُ: إذا عَلِمْتَ أحْوالَ المُعْرِضِينَ عَنْ دَلائِلِ الحَقِّ فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ. والأمْرُ مُسْتَعْمَلٌ في طَلَبِ الدَّوامِ. والمَقْصُودُ: أنْ لا تَهْتَمَّ بِإعْراضِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ حاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: ٢٠] وقَوْلِهِ ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ومَن تابَ مَعَكَ﴾ [هود: ١١٢] (p-٨٩)أيْ مَن آمَنَ، وقَوْلِهِ ﴿أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨] . فالمَعْنى: فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ والمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، كَما يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ﴾ [الروم: ٣١] بِصِيغَةِ الجَمْعِ. وإقامَةُ الوَجْهِ: تَقْوِيمُهُ وتَعْدِيلُهُ بِاتِّجاهِهِ قُبالَةَ نَظَرِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمِينًا ولا شِمالًا. وهو تَمْثِيلٌ لِحالَةِ الإقْبالِ عَلى الشَّيْءِ والتَّمَحُّضِ لِلشُّغْلِ بِهِ بِحالِ قِصَرِ النَّظَرِ إلى صَوْبِ قُبالَتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأقِيمُوا وُجُوهَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ﴾ [الأعراف: ٢٩] وقَوْلِهِ حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ ﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [الأنعام: ٧٩] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] أيْ: أعْطَيْتُهُ لِلَّهِ، وذَلِكَ مَعْنى التَّمْحِيضِ لِعِبادَةِ اللَّهِ وأنْ لا يَلْتَفِتَ إلى مَعْبُودٍ غَيْرِهِ. والتَّعْرِيفُ في الدِّينِ لِلْعَهْدِ وهو دِينُهُمُ الَّذِي هم عَلَيْهِ وهو دِينُ الإسْلامِ. وحَنِيفًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في فِعْلِ أقِمْ فَيَكُونُ حالًا لِلنَّبِيءِ ﷺ كَما كانَ وصْفًا لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٠] وهَذا هو الأظْهَرُ في تَفْسِيرِهِ. ويَجُوزُ كَوْنُهُ حالًا مِنَ الدِّينِ عَلى ما فَسَّرَ بِهِ الزَّجّاجُ فَيَكُونُ اسْتِعارَةً بِتَشْبِيهِ الدِّينِ بِرَجُلٍ حَنِيفٍ في خُلُوِّهِ مِن شَوائِبِ الشِّرْكِ، فَيَكُونُ الحَنِيفُ تَمْثِيلِيَّةً وفي إثْباتِهِ لِلدِّينِ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ. وحَنِيفٌ: صِيغَةُ مُبالَغَةٍ في الِاتِّصافِ بِالحَنَفِ وهو المَيْلُ، وغَلَبَ اسْتِعْمالُ هَذا الوَصْفِ في المَيْلِ عَنِ الباطِلِ، أيِ العُدُولُ عَنْهُ بِالتَّوَجُّهِ إلى الحَقِّ، أيْ عادِلًا ومُنْقَطِعًا عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥]، وقَدْ مَضى في سُورَةِ البَقَرَةِ. وفِطْرَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِن حَنِيفًا بَدَلُ اشْتِمالٍ فَهو في مَعْنى الحالِ مِنَ الدِّينِ أيْضًا وهو حالٌ ثانِيَةٌ فَإنَّ الحالَ كالخَبَرِ تَتَعَدَّدُ بِدُونِ عَطْفٍ عَلى التَّحْقِيقِ عِنْدَ النُّحاةِ. وهَذا أحْسَنُ لِأنَّهُ أصْرَحُ في إفادَةِ أنَّ هَذا الدِّينَ مُخْتَصٌّ بِوَصْفَيْنِ هُما: التَّبَرُّؤُ مِنَ الإشْراكِ، ومُوافَقَتُهُ الفِطْرَةَ، فَيُفِيدُ أنَّهُ دِينٌ سَمْحٌ سَهْلٌ لا عَنَتَ فِيهِ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ١] أيِ الدِّينُ الَّذِي هو فِطْرَةُ اللَّهِ لِأنَّ (p-٩٠)التَّوْحِيدَ هو الفِطْرَةُ، والإشْراكُ تَبْدِيلٌ لِلْفِطْرَةِ. والفِطْرَةُ أصْلُهُ اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الفَطْرِ وهو الخَلْقُ مِثْلَ الخِلْقَةِ كَما بَيَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ أيْ: جَبَلَ النّاسَ وخَلَقَهم عَلَيْها، أيْ: مُتَمَكِّنِينَ مِنها. فَحَرْفُ الِاسْتِعْلاءِ مُسْتَعارٌ لِتَمَكُّنِ مُلابَسَةِ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ تَمَكُّنًا يُشْبِهُ تَمَكُّنَ المُعْتَلِي عَلى شَيْءٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وحَقِيقَةُ المَعْنى: الَّتِي فَطَرَ النّاسَ بِها. ومَعْنى فَطَرَ النّاسَ عَلى الدِّينِ الحَنِيفِ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ النّاسَ قابِلَيْنِ لِأحْكامِ هَذا الدِّينِ وجَعَلَ تَعالِيمَهُ مُناسِبَةً لِخِلْقَتِهِمْ غَيْرَ مُجافِيَةٍ لَها، غَيْرَ نائِينَ عَنْهُ ولا مُنْكِرِينَ لَهُ مِثْلَ إثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ لِلَّهِ لِأنَّ التَّوْحِيدَ هو الَّذِي يُساوِقُ العَقْلَ والنَّظَرَ الصَّحِيحَ حَتّى لَوْ تُرِكَ الإنْسانُ وتَفْكِيرُهُ ولَمْ يُلَقَّنِ اعْتِقادًا ضالًّا لاهْتَدى إلى التَّوْحِيدِ بِفِطْرَتِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ (أيِ الفِطْرَةِ) أنَّها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ الَّتِي في نَفْسِ الإنْسانِ الَّتِي هي مُعَدَّةٌ ومُهَيَّئَةٌ لِأنْ يُمَيِّزَ بِها مَصْنُوعاتِ اللَّهِ، ويَسْتَدِلُّ بِها عَلى رَبِّهِ ويَعْرِفُ شَرائِعَهُ اهــ. وإنْ لَمْ أرَ مَن أتْقَنَ الإفْصاحَ عَنْ مَعْنى كَوْنِ الإسْلامِ هو الفِطْرَةُ فَأُبَيِّنُهُ: بِأنَّ الفِطْرَةَ هي النِّظامُ الَّذِي أوْجَدَهُ اللَّهُ في كُلِّ مَخْلُوقٍ، والفِطْرَةُ الَّتِي تَخُصُّ نَوْعَ الإنْسانِ هي ما خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جَسَدًا وعَقْلًا، فَمَشْيُ الإنْسانِ بِرِجْلَيْهِ فِطْرَةٌ جَسَدِيَّةٌ، ومُحاوَلَتُهُ أنْ يَتَناوَلَ الأشْياءَ بِرِجْلَيْهِ خِلافَ الفِطْرَةِ الجَسَدِيَّةِ، واسْتِنْتاجُ المُسَبِّباتِ مِن أسْبابِها والنَّتائِجِ مِن مُقَدِّماتِها فِطْرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، ومُحاوَلَةُ اسْتِنْتاجِ أمْرٍ مِن غَيْرِ سَبَبِهِ خِلافُ الفِطْرَةِ العَقْلِيَّةِ وهو المُسَمّى في عِلْمِ الِاسْتِدْلالِ بِفَسادِ الوَضْعِ، وجَزْمُنا بِأنَّ ما نُبْصِرُهُ مِنَ الأشْياءِ هو حَقائِقُ ثابِتَةٌ في الوُجُودِ ونَفْسُ الأمْرِ فِطْرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وإنْكارُ السُّوفِسْطائِيَّةِ ثُبُوتَ المَحْسُوساتِ في نَفْسِ الأمْرِ خِلافَ الفِطْرَةِ العَقْلِيَّةِ. وقَدْ بَيَّنَ أبُو عَلِيِّ بْنُ سِينا حَقِيقَةَ الفِطْرَةِ في كِتابِهِ النَّجاةِ فَقالَ: ( ومَعْنى الفِطْرَةِ أنْ يَتَوَهَّمَ الإنْسانُ نَفْسَهُ حَصَلَ في الدُّنْيا دَفْعَةً وهو عاقِلٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ رَأْيًا ولَمْ يَعْتَقِدْ مَذْهَبًا ولَمْ يُعاشِرْ أُمَّةً ولَمْ يَعْرِفْ سِياسَةً، ولَكِنَّهُ شاهَدَ المَحْسُوساتِ وأخَذَ مِنها (p-٩١)الحالاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلى ذِهْنِهِ شَيْئًا ويَتَشَكَّكُ فِيهِ فَإنْ أمْكَنَهُ الشَّكُّ فالفِطْرَةُ لا تَشْهَدُ بِهِ وإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فَهو ما تُوجِبُهُ الفِطْرَةُ، ولَيْسَ كُلُّ ما تُوجِبُهُ فِطْرَةُ الإنْسانِ بِصادِقٍ إنَّما الصّادِقُ فِطْرَةُ القُوَّةِ الَّتِي تُسَمّى عَقْلًا، وأمّا فِطْرَةُ الذِّهْنِ بِالجُمْلَةِ فَرُبَّما كانَتْ كاذِبَةً، وإنَّما يَكُونُ هَذا الكَذِبُ في الأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً بِالذّاتِ بَلْ هي مَبادِئُ لِلْمَحْسُوساتِ. فالفِطْرَةُ الصّادِقَةُ هي مُقَدِّماتٌ وآراءٌ مَشْهُورَةٌ مَحْمُودَةٌ أوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِها: إمّا شَهادَةُ الكُلِّ مِثْلَ: أنَّ العَدْلَ جَمِيلٌ، وإمّا شَهادَةُ الأكْثَرِ؛ وإمّا شَهادَةُ العُلَماءِ أوِ الأفاضِلِ مِنهم. ولَيْسَتِ الذّائِعاتُ مِن جِهَةِ ما هي ذائِعاتٌ مِمّا يَقَعُ التَّصْدِيقُ بِها في الفِطْرَةِ فَما كانَ مِنَ الذّائِعاتِ لَيْسَ بِأوَّلِيٍّ عَقْلِيٍّ ولا وهْمِيٍّ فَإنَّها غَيْرُ فِطْرِيَّةٍ، ولَكِنَّها مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الأنْفُسِ لِأنَّ العادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَيْها مُنْذُ الصِّبى ورُبَّما دَعا إلَيْها مَحَبَّةُ التَّسالُمِ والِاصْطِناعُ المُضْطَرُّ إلَيْهِما الإنْسانُ، أوْ شَيْءٌ مِنَ الأخْلاقِ الإنْسانِيَّةِ مِثْلَ الحَياءِ والِاسْتِئْناسِ أوِ الِاسْتِقْراءِ الكَثِيرِ، أوْ كَوْنِ القَوْلِ في نَفْسِهِ ذا شَرْطٍ دَقِيقٍ لِأنْ يَكُونَ حَقًّا صِرْفًا فَلا يُفْطَنُ لِذَلِكَ الشَّرْطِ ويُؤْخَذُ عَلى الإطْلاقِ. اهــ. فَوَصْفُ الإسْلامِ بِأنَّهُ فِطْرَةُ اللَّهِ مَعْناهُ أنَّ أصْلَ الِاعْتِقادِ فِيهِ جارٍ عَلى مُقْتَضى الفِطْرَةِ العَقْلِيَّةِ، وأمّا تَشْرِيعاتُهُ وتَفارِيعُهُ فَهي: إمّا أُمُورٌ فِطْرِيَّةٌ أيْضًا، أيْ جارِيَةٌ عَلى وفْقِ ما يُدْرِكُهُ العَقْلُ ويَشْهَدُ بِهِ، وإمّا أنْ تَكُونَ لِصَلاحِهِ مِمّا لا يُنافِي فِطْرَتَهُ. وقَوانِينُ المُعامَلاتِ فِيهِ هي راجِعَةٌ إلى ما تَشْهَدُ بِهِ الفِطْرَةُ لِأنَّ طَلَبَ المَصالِحِ مِنَ الفِطْرَةِ. وتَفْصِيلُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذا مَوْضِعَهُ وقَدْ بَيَّنْتُهُ في كِتابِي المُسَمّى (مَقاصِدُ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ) . واعْلَمْ أنَّ شَواهِدَ الفِطْرَةِ قَدْ تَكُونُ واضِحَةً بَيِّنَةً وقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَما يَقْتَضِيهِ كَلامُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينا، فَإذا خَفِيَتِ المَعانِي الفِطْرِيَّةُ أوِ التَبَسَتْ بِغَيْرِها فالمُضْطَلِعُونَ بِتَمْيِيزِها وكَشْفِها هُمُ العُلَماءُ الحُكَماءُ الَّذِينَ تَمَرَّسُوا بِحَقائِقِ الأشْياءِ (p-٩٢)والتَّفْرِيقِ بَيْنَ مُتَشابِهاتِها، وسَبَرُوا أحْوالَ البَشَرِ، وتَعَرَّضَتْ أفْهامُهم زَمانًا لِتَصارِيفِ الشَّرِيعَةِ، وتَوَسَّمُوا مَرامِيها، وغاياتِها وعَصَمُوا أنْفُسَهم بِوازِعِ الحَقِّ عَنْ أنْ يَمِيلُوا مَعَ الأهْواءِ. إنَّ المُجْتَمَعَ الإنْسانِيَّ قَدْ مُنِيَ عُصُورًا طَوِيلَةً بِأوْهامٍ وعَوائِدَ ومَأْلُوفاتٍ أدْخَلَها عَلَيْهِ أهْلُ التَّضْلِيلِ، فاخْتَلَطَتْ عِنْدَهُ بِالعُلُومِ الحَقِّ فَتَقاوَلَ النّاسُ عَلَيْها وارْتاضُوا عَلى قَبُولِها، فالتَصَقَتْ بِعُقُولِهِمِ التِصاقَ العَنْكَبُوتِ بِبَيْتِهِ، فَتِلْكَ يُخافُ مِنها أنْ تُتْلَقّى بِالتَّسْلِيمِ عَلى مُرُورِ العُصُورِ فَيَعْسُرُ إقْلاعُهم عَنْها وإدْراكُهم ما فِيها مِن تَحْرِيفٍ عَنِ الحَقِّ، فَلَيْسَ لِتَمْيِيزِها إلّا أهْلُ الرُّسُوخِ أصْحابُ العُلُومِ الصَّحِيحَةِ الَّذِينَ ضَرَبُوا في الوُصُولِ إلى الحَقائِقِ كُلَّ سَبِيلٍ، واسْتَوْضَحُوا خَطِيرَها وسَلِيمَها فَكانُوا لِلسّابِلَةِ خَيْرَ دَلِيلٍ. وكَوْنُ الإسْلامِ هو الفِطْرَةُ، ومُلازَمَةُ أحْكامِهِ لِمُقْتَضَياتِ الفِطْرَةِ صِفَةٌ اخْتَصَّ بِها الإسْلامُ مِن بَيْنِ سائِرِ الأدْيانِ في تَفارِيعِهِ أمّا أُصُولُهُ فاشْتَرَكَتْ فِيها الأدْيانُ الإلَهِيَّةُ، وهَذا ما أفادَهُ قَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ . فالإسْلامُ عامٌّ خالِدٌ مُناسِبٌ لِجَمِيعِ العُصُورِ وصالِحٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ، ولا يَسْتَتِبُّ ذَلِكَ إلّا إذا بُنِيَتْ أحْكامُهُ عَلى أُصُولِ الفِطْرَةِ الإنْسانِيَّةِ لِيَكُونَ صالِحًا لِلنّاسِ كافَّةً ولِلْعُصُورِ عامَّةً وقَدِ اقْتَضى وصْفُ الفِطْرَةِ أنْ يَكُونَ الإسْلامُ سَمْحًا يُسْرًا لِأنَّ السَّماحَةَ واليُسْرَ مُبْتَغى الفِطْرَةِ. وفِي قَوْلِهِ ﴿الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ بَيانٌ لِمَعْنى الإضافَةِ في قَوْلِهِ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ وتَصْرِيحٌ بِأنَّ اللَّهَ خَلَقَ النّاسَ سالِمَةٌ عُقُولُهم مِمّا يُنافِي الفِطْرَةَ مِنَ الأدْيانِ الباطِلَةِ والعاداتِ الذَّمِيمَةِ وأنَّ ما يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّلالاتِ ما هو إلّا مِن جَرّاءِ التَّلَقِّي والتَّعَوُّدِ، وقَدْ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «يُولَدُ الوَلَدُ عَلى الفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أبَواهُ هُما اللَّذانِ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ» أيْ كَما تُولَدُ البَهِيمَةُ مِن إبِلٍ أوْ بَقَرٍ أوْ غَنَمٍ كامِلَةً جَمْعاءَ أيْ: بِذَيْلِها، أيْ تُوَلَدُ كامِلَةً ويَعْمِدُ بَعْضُ النّاسِ إلى قَطْعِ ذَيْلِها وجَدْعِهِ وهي الجَدْعاءُ، و(تُحِسُّونَ) تُدْرِكُونَ بِالحِسِّ، أيْ: حاسَّةِ البَصَرِ. فَجَعَلَ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ مُخالِفَةً الفِطْرَةَ، أيْ: في تَفارِيعِها. (p-٩٣)وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ فِيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ «وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهم (أيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) وأنَّهم أتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فَأجالَتْهم عَنْ دِينِهِمْ وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهم وأمَرَتْهم أنْ يُشْرِكُوا بِي ما لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطانًا» الحَدِيثَ. وجُمْلَةُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنى فِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها فَهي جارِيَةٌ مَجْرى حالٍ ثالِثَةٍ مِنَ الدِّينِ عَلى تَقْدِيرِ رابِطٍ مَحْذُوفٍ. والتَّقْدِيرُ: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ، أيْ في هَذا الدِّينِ، فَهو كَقَوْلِهِ في حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ في قَوْلِ الرّابِعَةِ (زَوْجِي كَلَيْلِ تِهامَةَ لا حَرَّ ولا قَرَّ ولا مَخافَةَ ولا سَآمَةَ) أيْ: في ذَلِكَ اللَّيْلِ. فَمَعْنى ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أنَّهُ الدِّينُ الحَنِيفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْدِيلٌ لِخَلْقِ اللَّهِ خِلافَ دِينِ أهْلِ الشِّرْكِ، قالَ تَعالى عَنِ الشَّيْطانِ ﴿ولَآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١٩] . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ مُعْتَرِضَةً لِإفادَةِ النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ فِيما أوْدَعَهُ الفِطْرَةَ. فَتَكُونُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى النَّهْيِ عَلى وجْهِ المُبالِغَةِ كَقَوْلِهِ لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم. فَنَفْيُ الجِنْسِ مُرادٌ بِهِ جِنْسٌ مِنَ التَّبْدِيلِ خاصٌّ بِالوَصْفِ لا نَفْيَ وُقُوعِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ فَهو مِنَ العامِ المُرادُ بِهِ الخُصُوصُ بِالقَرِينَةِ. واسْمُ الإشارَةِ لِزِيادَةِ تَمْيِيزِ هَذا الدِّينِ مَعَ تَعْظِيمِهِ. والقَيِّمُ: وصْفٌ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ مِثْلَ هَيِّنٍ ولَيِّنٍ يُفِيدُ قُوَّةَ الِاتِّصافِ بِمَصْدَرِهِ، أيِ البالِغُ قُوَّةَ القِيامِ مِثْلَ اسْتَقامَ الَّذِي هو مُبالَغَةٌ في قامَ كاسْتَجابَ. والقِيامُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِصابُ ضِدَّ القُعُودِ والِاضْطِجاعِ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى انْتِفاءِ الِاعْوِجاجِ يُقالُ: عُودٌ مُسْتَقِيمٌ وقَيِّمٌ، فَإطْلاقُ القَيِّمِ عَلى الدِّينِ تَشْبِيهُ انْتِفاءِ الخَطَأِ عَنْهُ بِاسْتِقامَةِ العُودِ وهو مِن تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ١] وقالَ تَعالى ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [التوبة: ٣٦] في سُورَةِ بَراءَةَ. (p-٩٤)ويُطْلَقُ أيْضًا عَلى الرِّعايَةِ والمُراقَبَةِ والكَفالَةِ بِالشَّيْءِ لِأنَّها تَسْتَلْزِمُ القِيامَ والتَّعَهُّدَ قالَ تَعالى ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]، ومِنهُ قُلْنا لِراعِي التَّلامِذَةِ ومُراقِبِ أحْوالِهِمْ: قَيَّمٌ. ويُطْلَقُ القَيِّمُ عَلى المُهَيْمِنِ والحافِظِ. والمَعانِي كُلُّها صالِحَةٌ لِلْحَمْلِ عَلَيْها هُنا، فَإنَّ هَذا الكُتّابَ مَعْصُومٌ عَنِ الخَطَأِ ومُتَكَفِّلٌ بِمَصالِحِ النّاسِ وشاهِدٌ عَلى الكُتُبِ السّالِفَةِ تَصْحِيحًا ونَسْخًا قالَ تَعالى ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨] وتَقَدَّمَ في طالِعِ سُورَةِ الكَهْفِ. فَهَذا الدِّينُ بِهِ قِوامُ أمْرِ الأُمَّةِ. قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ لِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ: (يا مُعاذُ ما قِوامُ هَذِهِ الأُمَّةِ ؟ قالَ: الإخْلاصُ وهو الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلَيْها، والصَّلاةُ وهي الدِّينُ، والطّاعَةُ وهي العِصْمَةُ، فَقالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ) يُرِيدُ مُعاذٌ بِالإخْلاصِ التَّوْحِيدَ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ﴾ [البينة: ٥] . والِاسْتِدْراكُ في قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ واهِمٍ يَقُولُ: إذا كانَ فاسْتُدْرِكَ ذَلِكَ بِأنَّهم جُهّالٌ لا عِلْمَ عِنْدَهم فَإنْ كانَ قَدْ بَلَغَهم فَإنَّهم جَهِلُوا مَعانِيَهُ لِإعْراضِهِمْ عَنِ التَّأمُّلِ ولا يَعْلَمُونَ مِنهُ إلّا ما لا يُفِيدُهم مُهِمُّهم لِأنَّهم لَمْ يَسْعَوْا في أنْ يَبْلُغَهم عَلى الوَجْهِ الصَّحِيحِ؛ فَفِعْلُ لا يَعْلَمُونَ غَيْرُ مُتَطَلَّبٍ مَفْعُولًا بَلْ هو مَنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ لِأنَّ المَعْنى لا عِلْمَ عِنْدَهم عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَ في نَظِيرِهِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. والمُرادُ بِـ ”أكْثَرِ النّاسِ“ المُشْرِكُونَ إذْ أعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الإسْلامِ، وأهْلُ الكِتابِ إذْ أبَوُا اتِّباعَ الرَّسُولِ ﷺ ومُفارَقَةَ أدْيانِهِمْ بَعْدَ إبْطالِها لِانْتِهاءِ صَلاحِيَّةِ تَفارِيعِها بِانْقِضاءِ الأحْوالِ الَّتِي شَرَعَتْ لَها انْقِضاءً لا مَطْمَعَ بَعْدَهُ لِأنْ تَعُودَ. ومُقابِلُ أكْثَرِ النّاسِ هُمُ المُؤْمِنُونَ، وشِرْذِمَةٌ مِن عُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ عَلِمُوا أحَقِّيَّةَ الإسْلامِ وبَقُوا عَلى أدْيانِهِمْ عِنادًا: فَهم يَعْلَمُونَ ويُكابِرُونَ، أوْ تَحَيُّرًا: فَهم في شَكٍّ بَيْنَ عِلْمٍ وجَهْلٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    عامّة

    موسوعات

    أخرى

    لغة وبلاغة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب