<img alt="" vspace="0" hspace="0" border="0" width="1" height="1" language="//pftag.scholarlyiq.com/siqpagetag.gif?js=0">
Save

‫”الإنسان“ و”المرء“ في القرآن، أو بين الماهية الميتافيزيقية والشخص الأخلاقي‬

Insān” and “Marʾ” in the Qurʾān: Between Metaphysical Essence and Moral Personhood

In: Journal of Islamic Ethics
Author:
Chafik Graiguer هيئة الإشراف التربوي لمادة الفلسفة، وزارة التربية (Inspectorate Board of Philosophy, Ministry of Education) الرباط (Rabat) المغرب (Morocco)

Search for other papers by Chafik Graiguer in
Current site
Google Scholar
PubMed
Close
Open Access

الخلاصة

يتحدث القرآن عن الكائن البشري (وإليه) مستخدما مفردات عدة من قبيل: الإنسان، الناس، بنو آدم، النفس.. والتي يمكن أن نجد لها، بسهولة، مقابلات في اللغات الأجنبية. بيد أنه يستخدم أيضاً لفظاً آخر يكاد يكون غير قابل للترجمة، ولم ينل بعدُ حقه من الدراسة، هو ”المرء“. وتأتي الدراسة الحالية لتبحث في الاستعمال القرآني لهذا اللفظ الأخير بغية التدليل على أنه اللفظ الأقرب إلى تأدية المعنى الحديث لـ ”الشخص“ بما هو ذات أخلاقية‫.‬

سنحدد أولاً المعنى الحديث للشخص بما هو ذات أخلاقية تُحمل عليها هوية ومسؤولة وكرامة. ثم نبيّن كيف أن لفظ ”إنسان،“ في القرآن، أبعد من أن يعبر عن هذا المعنى؛ لأنه محمل بإيحاءات ‫(connotations)‬ ميتافيزيقية أكثر منها أخلاقية. بعد هذا الشق السلبي، يبدأ الشق الإيجابي من الدراسة للبرهنة على أن سياقات ورود لفظ مرء، في القرآن، تفيد فعلاً معنى الشخص بما هو ذات أخلاقية مسؤولة، وأن هذا المعنى يستثمر أولاً نواة دلالية للفظ في الشعر الجاهلي سيكون علينا بيانها مقدَّماً، تدور على فكرة الذات بوصفها فردية ‫(individuality)‬ تعي حتمية موتها؛ ويغتني ثانياً بما في لفظ المروءة من معاني الكرامة الشخصية. ونختم بمقارنة سريعة بين لفظيْ مرء ونفس في القرآن لبيان ما يمتاز به الأول عن الثاني من معاني الوحدة والهوية المميزة لمفهوم الشخص‫.‬

Abstract

The Qurʾān speaks about the human being (and to him) using several terms such as insān (human), nās (people), banū Ādam (children of Adam), nafs (soul), expressions for which we can easily find counterparts in other languages. However, it also uses another word that is almost untranslatable, and has not yet been sufficiently studied, namely marʾ. This study focuses on the Qurʾānic use of the latter word, in order to demonstrate that it is the word that comes closest to the modern meaning of “person” in terms of an ethical being.

First, we will define the modern meaning of “person” in the sense that it is an ethical being with an identity, responsibility and dignity. Subsequently, we show how the word insān in the Qurʾān does not express this meaning, since it is loaded with connotations that are more metaphysical than moral. After this negating aspect, the affirmative part of the study begins by arguing that the contexts in which the word marʾ appears in the Qurʾān actually asserts the meaning of “person” as a responsible ethical being. This meaning primarily bears a semantic nucleus of the term from pre-Islamic poetry, which we will have to outline first, revolving around the idea of an individual being that is aware of the inevitability of its death; and secondly, is enriched with the meanings of personal dignity that are encompassed in the term chivalry. We conclude the article with a brief comparison between the words marʾ and nafs in the Qurʾān to clarify what distinguishes the first from the second in terms of unity and distinct identity regarding the concept of “person.”

مقدمة

تفترض القيم الأخلاقية ذواتاً تقع على أفعالها الأحكام والتقييمات وتُخاطَب بالواجبات والتكاليف. لذا كانت معرفة منزلة الذات الأخلاقية أو الفاعل الأخلاقي، في دين أو مذهب أو فلسفة ما، لا تقل أهمية عن معرفة تصور هذا الدين أو المذهب للقيم الأخلاقية نفسها؛1 بل لعل منزلة الفاعل الأخلاقي هي نفسها قيمة من القيم. من هنا تنبع أهمية البحث في التصور القرآني للفرد البشري بما هو ذات أخلاقية. ولكن أين عسانا نعثر على مثل هذا التصور في القرآن؟

مثلما يشير القرآن إلى نفسه بمفردات كثيرة من قبيل الكتاب والذكر والتنزيل والقرآن والفرقان..، كذلك نجده يتحدث عن الشخص البشري (وإليه) مستخدما مفردات كثيرة من قبيل: الإنسان، الناس، البشر، المرء، بنو آدم، النفس… ومثلما تتبّعت آن-سيلفي بواليفو، من بين آخرين، الكلمات التي يشير بها القرآن إلى نفسه، ورسمت الحدود الدلالية لكل واحد منها ‫(Boisliveau 2014)‬، كذلك نعتقد أن لكل واحد من المفردات، التي يشير بها القرآن إلى الكائن البشري، حدوداً دلالية يمكننا استقصاؤها ورسمها. ومما لا شك فيه أن دراسة معاني هذه المفردات خطوة مهمة لأجل فهم أفضل لأنثروبولوجيا القرآن.2

تقتصر مادة التحليل، في البحث الحالي، على اثنتين من هذه المفردات: ”الإنسان“ و“المرء“. فأما الأولى فمتواتر ذكرها في القرآن بما مجموعه 71 مرة، وتُعتبر في العادة كافية لتسمية الكائن البشري في كل حالاته؛ أما الثانية فلا تتمتع بنفس درجة توارد أختها، ما دامت لا ترِد غير 11 مرة في القرآن.3 وعلى الرغم من هذا اللاتكافؤ العددي، فإن لفظ ”المرء“ يختزن إمكانات دلالية ‫(semantic potentialities)‬ فريدة لم تستكشف بعد. يكفي أن نشير، في هذه البداية، إلى أنه لا يأتي، في العربية، إلا مفرداً، ولا جمع له إلا من غير لفظه؛4 وهو كذلك اللفظ المستخدم في الحديث الشهير الذي افتتح به البخاري صحيحه كله: ”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.“ (البخاري 2001، 6/1)؛ ثم إن بينه وبين لفظ المروءة نسباً.5 ومعلوم ما يطفح به لفظ المروءة من حمولة أخلاقية إيجابية، حتى لا يكاد ينحصر ما تحتها من الفضائل،6 فضلاً عن كونه أحد الألفاظ التي جمّعت فيه اللغة العربية أجزاءً من التجربة الإنسانية تجميعاً فريداً إلى درجة تعسُر معها ترجمته إلى أي لغة أخرى ‫(Izutsu 2002a, 26–28).‬ على هذا الأساس، لن ننظر إلى إنسان ومرء كما لو كانا مترادفين ينوب أحدهما عن الآخر. صحيح أنهما يشيران إلى نفس الموجود الخارجي، لكن ليس بالاعتبار الواحد نفسه ولا من الجهة الواحدة نفسها. لذا سنُجري بينهما نوعاً من تقسيم ”الشغل“ الدلالي،7 يختص لفظ المرء، بموجبه، بالدلالة على الذات الأخلاقية في السياق القرآني‫.‬

وقبل إقامة الدليل على أن المرء (أو أي لفظ آخر) هو الدال، في القرآن، على معنى الذات الأخلاقية، لا بد لنا أن نحدد أولاً المقصود بهذه الأخيرة: ما الذي يجعل من كيان ما ذاتاً أخلاقية؟ ننطلق في هذا البحث من أن قوام هذه الذات ركنان شددت عليهما الفلسفة الحديثة، وإن كانت الأزمنة ما قبل – حديثة لم تكن تجهلهما: المسؤولية ثم الكرامة‫.‬

من ناحية الدال، يشار إلى الذات الأخلاقية في اللغات الأوروبية بلفظ ‫(person) (Lalande 1997, 759–760)‬؛ وهو لفظ جرى، في العربية الحديثة، الاصطلاح على ترجمته بـ”شخص.“8 وكان جون لوك قد دشن البحث الفلسفي في الشخص بأن ميّز بين ثلاثة معان/كيانات: الجوهر والإنسان والشخص ‫(Locke 1975, 332)‬؛ معرّفاً هذا الأخير بأنه كائن مفكر قادر على الوعي. وحيث إن الوعي هو تلك المعرفة المصاحبة لكل تفكير أو إدراك حسي أو حالة شعورية، فهذا الوعي هو ”ما يدعوه كل واحد بالإنية ويتميز به عن غيره من الكيانات المفكرة، ولا تكمن الهوية الشخصية في شيء سواه“9 ‫(Locke 1975, 335).‬ وبقدر ما يمتد هذا الوعي في الماضي بقدر ما تمتد هوية هذا الشخص ‫(Locke 1975, 335).‬

ثم جاء كانط فأرسى دعائم الدلالة الأخلاقية لمفهوم الشخص ورسّخها عندما عرّفه بأنه ”الذات ‫(subject)‬ التي يمكن أن تُنسب إليها مسؤولية أفعالها. وليست الشخصية الأخلاقية شيئا آخر غير الحرية التي للكائن العاقل تحت سقف القوانين الأخلاقية“ ‫(Kant 1996, 223).‬ ولما كانت هذه الذات الأخلاقية هي التي تشرّع لنفسها بنفسها قانونها الأخلاقي، ولا تتلقّاه مفروضاً عليها من إرادة خارجة عنها، فإن هذا الاستعداد ‫(predisposition)‬ يرفع الشخص فوق مقام كل الموجودات الطبيعية التي لا تتصرف بموجب قوانين من وضعها، بل تخضع لقوانين خارجية حتمية. هذ ما يَهَب الشخص قيمة مطلقة أو كرامة. ولهذا نطالع في أسس ميتافيزيقا الأخلاق، الوجه الآخر للتعريف السابق؛ إذ يضيف كانط بأن الشخص كائن عاقل تجعل منه طبيعته غاية في حد ذاته ومحل احترام؛ أي شيئا مقيِّداً للخيارات، ما دام لا يمكن استعماله كما لو كان مجرد وسيلة ‫(Kant 1997, 428).‬ وهكذا ثبّت كانط الدلالة الأخلاقية في قلب مفهوم الشخوصية ‫(Raffoul 2010, 59–60) (Personhood).‬

إذا كانت الهوية والمسؤولية والكرامة قوام الشخص بما هو ذات أخلاقية في الفلسفة الحديثة، فإن هذه المكونات، خاصة الثاني والثالث، ليست غائبة عن القرآن على الرغم من القرون الفاصلة بين عصره وعصر الحداثة. يلح القرآن بدوره على المسؤولية الفردية بحيث لا تزر وازرة وزر أخرى، كما يعلن أن بني آدم يحْظون بتكريم إلهي أصلي.10 يبقى إذن أن نعرف ما إذا كان ثمة، في الخطاب القرآني، مَفْهَمَةُ ‫(‘conceptualization’)‬ لهذين المعنييْن معاً من خلال لفظ واحد. بعبارة أخرى؛ من بين الألفاظ الكثيرة التي تحدّث بها القرآن عن الكائن البشري (وإليه)، ما اللفظ الذي يقبض أكثر من غيره على هذين المعنييْن؟ ونحن – كما قلنا – زاعمون أن الجواب كامن في لفظ ”المرء“‫.‬

1 الدراسات السابقة ومنهج الدراسة الحالية

لم يلتفت الباحثون إلا قليلاً إلى تصور القرآن لـ ”الشخص“ من حيث هو وحدة معنوية تقوم بدور تمثيل الإنسان الفردِ أخلاقياً أمام الله. كذلك لم يهتموا، من باب أوْلى، بهويته المفهومية؛ أي بالحد الذي قد يشير به القرآن إلى هذا الكيان. يسجل جوزيف شلهود مثلاً غياب لفظ شخص عن متن القرآن، ويستغرب ”خلو كتاب مقدس، من عيار القرآن، من تلميح إلى شخص الله أو شخص المخلوق“ ‫(Chelhod 1957, 232).‬ وحيث إنه يستبعد مثل هذا الخلو، فقد قرر أن ”الوجه“ هو الذي يضطلع بمهمة الدلالة على فكرة الشخص عند العرب ‫(Chelhod 1957, 237)‬، من باب إطلاق الجزء على الكل، فضلاً عن أن الوجه يحمل معاني الكرامة المفترضة في الشخص، من حيث دلالته على الرئاسة والوجاهة والشرف (ماء الوجه).. ‫(Chelhod 1957, 234).‬ ومنه ينتهي إلى أن الآيات التي تتحدث عن ”وجه الله“ إنما مقصودها ”شخص الله“، مثلما أن تلك التي تتحدث عن وجه الإنسان، مثل ” بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه“ (البقرة:2)، إنما مرادها الشخص البشري ‫(Chelhod 1957, 233).‬ بيد أننا نرى أن دلالة الوجه على ”الشخصيْن“ الإلهي والإنساني معاً هو، تحديداً، ما ينبغي أن يدفعنا إلى استبعاد هذا التأويل؛ لأن ”الشخص“ لا يمكن أن يقال عليهما بالنحو نفسه.11 ثم إن الوجه في ”أسلم وجهه“ يعني إخلاص العبادة (الأصفهاني 2009، 856) أو إسلام النفس وإذلالها لله (الرازي 1999، 6/4)، دالاً بذلك على هيئة معينة للشخص أكثر من دلالته على المفهوم المركب للشخص‫.‬

لئن كان شلهود قد أثار المسألة، على الأقل، فأغلب الباحثين تجاهلوها، مكتفين بالتسليم بوجود شيء اسمه الفرد بناءً على أن المسؤولية في الإسلام فردية. ينوّه فضل الرحمن مثلاً على أن التقوى، التي تلخص الموقف الديني المثالي، لا تكون إلا فردية ‫(Fazlurahman 1966, 322)‬، وأنها ليست خوفاً بالمعنى المعروف، بل هي بالأحرى خوف من المسؤولية ‫(Fazlurahman 1984, 176).‬ وبوحي من هذه المسؤولية الفردية رفض متكلمو الإسلام مذهب الفداء المسيحي ‫(Fazlurahman 1966, 324–325).‬ وبالطبع، لم يعدم فضل الرحمن آيات قرآنية تتحدث عن حمل الإنسان للأمانة، وعن حشر الناس فرادى.12 لكن من غير التفاتِ إلى اللفظ التي يُحتمل أن تكون قد تمت من خلاله مفهمة مثل هذه المسؤولية الفردية الملقاة على عاتق الكائن البشري. هناك إذن اعتقاد بأن اللفظ الجنيس ‫(generic name)‬، ”إنسان“، كاف للدلالة على الفرد المشرّف المكلَّف؛ والحال أن لفظ إنسان – كما سنرى – أقرب إلى الدلالة، في القرآن، على النوع أو ماهية النوع مع شيء من الإيحاءات الميتافيزيقية السلبية أكثر من دلالته على الفرد أو الشخص‫.‬

ولكن قد يحدث أن يصطدم المفكر، عرَضاً، بمشكلة هوية الفاعل الأخلاقي وتسميته، فيضطر إلى القول فيها. يلاحظ عباس العقاد مثلا أن النفس ”تأتي في موضعها من الآيات الكثيرة مرادفة (…) [ل]لقوة التي تحس النعمة والعذاب وتلهم الفجور والتقوى، وتحاسب على ما تعمل من حسنة أو سيئة“ (العقاد 1971، 245). إنها أوصاف يجعل بها العقاد ”النفس“ مستغرقة لـ ”الذات الإنسانية“ ومطابقة لها بما هي ذات أخلاقية، أي حين تفعل وحين تختار وحين تحاسَب؛ لكنه سرعان ما يتجاهل هذا التطابق فيقرر أن ”الإنسان أعم من النفس؛ لأنه مسئول أن ينهاها (…) فجملة هذه القوى من النفس والعقل والروح هي ”الذات الإنسانية“، تدل كل قوة منها على ”الذات الإنسانية“ في حالة من حالاتها، ولا تتعدد ”الذات الإنسانية“ بأية صورة من صور التعدد“ (العقاد 1971، 246). أما عبد الكريم الخطيب فيحسم الأمر بأن يجعل النفس في القرآن بمثابة ”الكائن الذي يمثل الإنسان أمام الله، بل وأمام المجتمع أيضا“ (الخطيب 1970، 1166/12). ثم يمضي في تعريف النفس تعريفاً يذكرنا بتعريف جون لوك للشخص أعلاه: ”النفس في القرآن هي الإنسان المسئول المحاسب (…) الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، (…) إنها تتخلق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق في الإنسان ذاتية يعرف بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته“ (نفس المرجع، 1167/12، التشديد مني). لكن الخطيب هنا يغض الطرف عن المعاني الأخرى الكثيرة التي يستعمل بها القرآن لفظ النفس، بما يشوش على دلالتها على الذات الإنسانية.13

يبدو أن ”النفس“ هي القِبلة المفضلة للدارسين عندما يتعلق الأمر بتعيين ‫(identifying)‬ مفهوم الشخص الإنساني في القرآن. هكذا ينطلق ريجيس بلاشير بدوره من مبدأ المسؤولية الفردية في الإسلام، ومن أن القرآن يجسّم هذه المبدأ في مشهد وقوف الكائن البشري بين يديْ ربه يوم الحساب. وهو يلاحظ أن القرآن إذ يستعمل أحياناً مصطلحاً مجرداً، هو ”الإنسان“، لتسمية هذا الكائن الواقف بين يديْ ربه، فإنه في مواضع أخرى كثيرة يستعمل لفظ النفس ‫(Blachère 1975, 74).‬ ويمضي بلاشير إلى أبعد من ذلك فيعمد إلى لفظ النفس في آية ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران:145) فيترجمه بـ الكائن الإنساني ‫(être humain)‬، بل يزيد فيترجمه بـ الشخص الإنساني ‫(personne humaine)‬ في آيتيْ ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾ (المنافقون: 11) و﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾(الإسراء: 33) ‫(Blachère 1975, 76).‬ والحال أن النفس، في هذه المواضع الثلاثة، لا تغطي مفهوم الشخص في أبعاده المركبة، بقدر ما تُصور الإنسان من زاوية مخصوصة، بما هو محل لـ“جذوة حياة“؛ أي الروح التي تزهق عند الموت‫.‬

ربما كان عنوان دراسة محمد أركون، راهنية مشكل الشخص في الفكر الإسلامي ‫(Arkoun 1989)‬ ، أقرب إلى إشكالية بحثنا؛ بيد أن المقال جاء أميناً للجزء الأول من العنوان أكثر من جزئه الثاني. قرّر أركون، منذ البدء، ألا يُعنى كثيرا بالفيلولوجيا ونبش نصوص التراث؛ لأن السؤال عن الشخص، في نظره، هو سؤال عن الوضعية الاجتماعية للمسلم في مجتمعات اليوم التي تخترقها أشكال من علاقات السلطة ومدونات الشرف التي تعوق انبثاق الشخص، وهي وضعية لا يمكن أن تدرسها إلا الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ‫(Arkoun 1989, 3).‬ أما بخصوص مفهوم الشخص نفسه، فقد اكتفى أركون بملاحظات وجيهة، وإن ظلت عابرة، من قبيل أن ”ما كلُّ فردٍ شخصاً“ ‫(Arkoun 1989, 23)‬، أو أن ”الشخص محل للحرية، حيث تتشكل توليفات معينة، وتُتبنّى خيارات محددة وتُستبعد أخرى“ ‫(Arkoun 1989, 9).‬ بيد أن ما فات محمد أركون هو التساؤل عن اللفظ الذي يُحتمل أن يقبض على الدلالات التي ينطوي عليها مفهوم الشخص في الفكر الحديث والمعاصر؛ إذ لا يمكن أن يوجد المعنى أو المفهوم دون لفظ دال عليه يميزه في الفكر كما نوّه على ذلك، مُحقّاً، صلاح نتيج ‫(Natij 2017; Natij 2018).‬

عندما نصل إلى الدراسات المكرسة حصراً للمفاهيم الأخلاقية في القرآن، لا يختلف منزع الباحثين كثيراً. هنا أيضا، لا تحظى هوية الفاعل الأخلاقي في القرآن، واللفظ الذي يحتمل أن يدل عليه، بالعناية المفترضة. ينطبق ذلك على العمليْن الرائديْن اللذين خصصهما توشيهيكو إيزوتسو لهذه المفاهيم: المفاهيم الدينية-الأخلاقية في القرآن ‫(Izutsu 2002a)‬ والله والإنسان في القرآن ‫(Izutsu 2002b).‬ حقاً، استقصى إيزوتسو، في الكتابيْن، الكثير من الحقول الدلالية والألفاظ البؤرية قِبل التقوى والخوف، الإيمان، الإنفاق والبخل، الحق والباطل، العبودية، الجهل، الظلم… ونوّه على أن مفهوم الإنسان مهم إلى درجة أنه يشكل العمود الثاني القائم في مقابل مفهوم الله بوصفه العمود الأول ‫(Izutsu 2002b, 76).‬ في المقابل، لا نقع عنده على عناية بمفردات الحقل الدلالي لـ ”الإنسان“ من قبيل إنسان، ابن آدم، آدم، الناس، الإنس، إنسي، المرء، بشر.. أو ”أجزاء“ الكائن البشري مثل نفس، قلب، فؤاد، صدر، يد.. يعود سبب هذا الإغفال، في نظرنا، إلى أن الإنسان، عند إيزوتسو، ليس زيداً أو عمرو، بل الإنسان بعامة في مقابل الله. وهو، في عموميته هذه، يكون مخلوقاً وعبداً، كفوراً أو شكوراً، أكثر من أن يكون فرداً وذاتية. ولذلك انصرفت عنايته إلى مفاهيم العبودية والكفر والشكر.. إلخ المنسحبة على الإنسان بما هو نوع‫.‬

على الرغم من ذلك، يُحسب لإيزوتسو تفطُّنُه إلى أن المفردات الدالة على إيثوس الجاهلية تعكس صورة ما للشخص عن نفسه وعن قيمته الذاتية؛ فمفردات مثل أنفة وإباء وحمية وحفيظة.. ”تدل جميعها على مكارم صفات الرجل السيد الذي يرفض كل ما من شأنه أن يشين كرامته الشخصية“ ‫(Izutsu 2002, 220‬، التشديد مني). وقف إيزوتسو أيضاً على تعارض هذه الصورة عن الذات مع مطلب العبودية الحازم الذي جاء به الإيثوس القرآني؛ ولكنه لم يلحظ أن العربي آنذاك قد جادل مطالباً بـ ”الحق في الوحي“، معتبرا اختصاص رجل بالوحي دون غيره أمراً قادحاً في الكرامة الشخصية للآخرين، وأن القرآن يصف هذا المُطالِب ب ”امرئ“ كما سنرى لاحقا.14 وفي حين يشير هذا العلّامة إلى تربُّع المروءة على عرش القيم البدوية ‫(Izutsu 2002a, 27, 75, 78)‬ ، فإنه لا يتعدى ذلك إلى النظر في دلالات الاستعمال القرآني للفظ ”المرء“، المشارك للمروءة في الاشتقاق. ولذلك فإنه، في الفصل الذي عقده للانتقال من القبَلية والمسؤولية الجماعية إلى رابطة العقيدة والمسؤولية الفردية ‫(Izutsu 2002a, 55–73)‬، يستشهد بآية ﴿يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه..﴾ (عبس: 34–35)، مترجماً ”مرء“ بـ ‫man‬ بكل بساطة ‫(Izutsu 2002a, 55–73)‬، مع أن استعمال القرآن ﴿يفر المرء﴾ بدل ”يفر الإنسان“ أو ”تفر كل نفس“ أو ”يوم تفرّون“ لا بد أن تثير الانتباه‫.‬

على الرغم من عدم عناية إيزوتسو بهوية الفاعل الأخلاقي وبالمفردات الدالة عليه وعلى الكائن البشري عموما في القرآن، إلا أن منهجه يظل خصباً ومفيداً لسببيْن على الأقل. أولهما أنه دلّل على أن الكثير من الألفاظ التي أخذها القرآن من الجاهلية ليتخذ منها ألفاظا مفتاحية قد كانت ألفاظاً مفتاحية في الجاهلية أيضاً. ولئن كان نسيجها الدلالي قد تعرض لتحول عميق، فإنها مع ذلك قد جلبت معها تاريخها قبل-الإسلامي. يضرب إيزوتسو لذلك أمثلة منها لفظ ”الكريم“ ‫(Izutsu 2002b, 39)‬، بيد أننا نعتقد أن المروءة، تحت معطف ”المرء“، داخلة في هذه الخانة أيضاً؛ لأنه إذا كان القرآن قد استعاد وأعاد تعريف مفاهيم جاهلية كالشكر والكفر والكرم والحلم.. فلا يمكن أن يكون قد ضرب صفحا عن أم هذه المفاهيم الأخلاقية؛ عنينا بها المروءة‫.‬

أما السبب الثاني لخصوبة منهجه فهو التمييز الذي أقامه، في التعابير الأخلاقية للقرآن، بين المفاهيم الأخلاقية الأُوّلِ ‫(primary-level ethical terms)‬ والمفاهيم الأخلاقية الثواني ‫(secondary-level ethical terms).‬ تشمل الأُولُ الألفاظ الأخلاقيّة الوصفيّة العاديّة من مثل وَرِع، بخيل، كافر، متواضع، كريم.. أمّا الثواني فتضم الألفاظ التّصنيفيّة التقييميّة كالحُسن والخير والسوء والشر. ويعبّر القسم الأعظم من النظام الأخلاقي لجماعة ما (وبالتالي للقرآن) عن نفسه من خلال المفاهيم الأخلاقية الأُول التي ”يجري تحميلها بشحنة أخلاقية أو تقييمية“ ‫(Izutsu 2002a, 19–23).‬ في ضوء هذه القسمة، قد يعود سبب انصراف ايزوتسو عن ألفاظ مثل إنسان، مرء، ابن آدم … إلى أنها ليست وصفية فحسب، بل هي وصفية خالصة إلى درجة أن شحنتها الأخلاقية-التقييمة تبدو ضامرة مقارنة مع ألفاظ ثانية اعتني بها مثل تقوى، كريم، بخيل، طغى، كفر، شكر … ومع ذلك، نزعم أن الألفاظ الأولى وأمثالها ليست مجرد أسماء قد يُنادى بها على الكائن البشري؛ بل تنطوي على أحكام تقييمية وعلى نظرية أخلاقية ضمنية. ينطبق ذلك على أسماء الكائن البشري الفرد قدر انطباقه أسماء الجماعات التي يدخل فيها الفرد مثل الناس، البشر، القبيل، الشعوب، الأمة، العباد، الأمم، الملأ، القوم‫.‬

مستلهمين إيزوتسو، سنتبع على مستوى المنهج طريقته في ”التأويل السياقي“ ‫(Izutsu 2002a, 37)‬، أو بالأحرى نسخة مبسطة من منهجه، لا تدخل تحت أيّ من القواعد السبعة التي وضعها لاستنباط معاني المفردات.15 يعود ذلك إلى الفرق القائم بين ”مرء“ و“إنسان“ من جهة؛ والمفاهيم الأخلاقية-الدينية التي انكبّ عليها، هو، من جهة أخرى. تنتمي هذه الأخيرة إلى طائفة المعاني المجردة العامة مثل كفر، نفاق، تقوى، آمن، طغى، شكر.. والتي ترِد غالباً، في محل المُسند، على هيئة أفعال أو صفات؛ أما مرء وإنسان فيشيران في النهاية إلى كيان يرِد غالبا في محل المسند إليه، إنْ فاعلاً ﴿إن الإنسان ليطغى﴾، ﴿يوم يفر المرء﴾ أو مفعولاً به ﴿خلقنا الإنسان﴾ أو منادى ﴿يا أيها الإنسان﴾ أو موصوفاً ﴿وكان الإنسان كفوراً﴾. لذا فإن منهجنا يقوم على تجميع الأوصاف الجزئية المتفرقة التي تُسند إلى الكائن البشري، في كل واحدة من السياقات الذي يرد فيها ذكره تحت مسمى إنسان ومرء، وتبويبها من أجل تركيب ”الصورة“ العامة لهذا الكائن. وهذا ما سنشرع فيه الآن‫.‬

2 الإنسان

عندما نفكر في اللفظ المشار به إلى الكائن البشري في القرآن، فإن أول ما يخطر على البال هو لفظ ”إنسان“، وكأن من المفروض بداهةً أنْ لا لفظ أنسب من ”الإنسان“ للحديث عن الإنسان. بيد أن هذه البداهة مضللة؛ لأن هذا اللفظ، كما سنرى، مستخدم في القرآن ضمن سياقات تفيد الماهية أو الكينونة الميتافيزيقية للآدمي، لا الكينونة الأخلاقية المفردة التي يفترضها المعنى الحديث للفظ شخص‫.‬

2.1 الإنسان بوصفه موئلاً ‫(locus)‬ لميتافيزيقا القرآن

ننطلق بداية من جملة ملاحظات هامة لعائشة بنت الشاطئ تُعين على التمييز بين الإنس والناس والإنسان، وعلى حصر المعاني التي يختص بها هذا الأخير. ”فالناس لعامة الجنس“ (بنت الشاطئ 1990، 81/2)؛ أما لفظ الإنس فيأتي دائما في مقابل الجن بما تعني من توحش وخفاء، وهذا هو معنى الإنسية الذي يأخذه لفظ ”إنسان“ من لفظ ”الإنس“ بحكم الجذر اللغوي (بنت الشاطئ 1993، 14–15). على أن لفظ إنسان يستقل، بعد ذلك، بمعانٍ خاصة؛ إذ ”ليس مناط إنسانيته (…) مجرد كونه منتميا إلى فصيلة الإنس (…) كما أنه ليس مجرد بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وإنما الإنسانية فيه ارتقاء إلى الدرجة التي تؤهله للخلافة في الأرض واحتمال تبعات التكليف وأمانة الإنسان، لأنه المختص بالعلم والبيان والعقل والتمييز، مع ما يلابس ذلك كله من تعرض للابتلاء بالخير والشر، وفتنة الغرور بما يحس من قوته وطاقته، وما يزدهيه من الشعور بقدْره ومكانته في الدرجة العليا من درجات التطور ومراتب الكائنات، بحيث ينسى في نشوة زهوه وكبرياء غروره، أنه المخلوق الضعيف الذي يعبر رحلة الدنيا من عالم المجهول إلى عالم الغيب، على الجسر المفضي حتما إلى حفرة من تراب“ (بنت الشاطئ 1993، 13، التشديد مني)‫.‬

تميّز بنت الشاطئ، إذن، في أنثروبولوجيا القرآن، بين الإنسية والبشرية والإنسانية. وتهمنا بالطبع سمات هذه الأخيرة، أو بالأحرى ازدواجية سماتها وتأرجحها، كما يقول أرنالديز، بين ”الرفعة والحقارة“ ‫(Arnaldez 1960–2005, 1237).‬ للإنسان جملة خصائص داخلة في ميزة ”الارتقاء،“ من قبيل الخلافة والأمانة والعقل والبيان، تلابسها جملة خصائص مضادة تصب في خانة ”السقوط“، هي: الابتلاء بالخير والشر، وفتنة الاغترار بالقوة، والزهوّ بهذا الارتقاء إلى درجة نسيان ”حفرة التراب“! فكأن كل ما في كفّة الارتقاء ينعدم ‫(counterbalanced)‬ بما يقابله، إن لم يكن يربو عليه، في كفّة السقوط!16 فتكون النتيجة خسرانا أصلياً ‫(original loss)‬ للإنسان: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 2). ويقدم سيد محمد نجيب العطاس ‫(Attas 1995)‬ تفسيراً هامّاً لهذا الخسران الأصلي بناءً على أن الدين يفيد، في أحد معانيه، الدَّيْن، وأن الإنسان ”مفلس“ لمجرد الخروج إلى الوجود! وبيان ذلك أنه لا يملك شيئاً في حين أنه مدين لخالقه بكل شيء: وجوده وتقلبه في أطوار خَلقه وحواسه.. مدين بديْن عظيم لا يمكن أداؤه إلا بأن يسلم نفسه لخالقه، خاصة أنه وافق على ميثاق المديونية هذا في عالم الذر قبل الوجود الفعلي ‫(Attas 1995, 45–46).‬ وواضح أن هذا الخسران خسران ميتافيزيقي؛ بمعني أنه قبلي وسابق على الوجود العيني.17 وتلك هي الصورة العامة التي نخرج بها إذا استقرأنا مختلف الآيات القرآنية التي يرِد فيها ذكر الإنسان، على ما سيتضح الآن‫.‬

يذكر القرآن ”الإنسان“ في مواضع يكون فيها موضوعا متلقيّاً للفعل (لفعل الخلق أو الإرشاد والتعليم من الله، أو لفعل الغواية من الشيطان)، وأخرى يكون فيها ذاتا يصدر عنها الفعل. في الحالة الثانية، يكون في الغالب ذاتاً موصوفة بشرور تزداد فداحة عندما يُذكَّر بـ ضُعف أصله (طين، نطفة)، فيرد بـ قوة الجحود والإعراض. صحيح أن ”الإنسان“ يرِد في مواضع تفيد معنى الذات المسؤولة كما في آية ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ (النجم: 39) وفي الآيات التي تصوره في موقف الحساب (القيامة: 10، 13–14، 36؛ النازعات: 35)، ولكن عددها ضئيل مقارنة بباقي الموارد (حوالي 67) التي وزعناها على خمس مجموعات ثيماتية وآيتين فريدتين. والثيمات الخمس، في الواقع، تفريعات وتنويعات من الخسران الذي يَسِم بميْسمه الإنسان، أو بالأحرى ماهيته، وهي: حقارة المادة الخِلقية، فساد الطبيعة الخُلقية، التعرض للإضلال الشيطاني، الجهل، وحمل الأمانة‫.‬

تدور المجموعة الأولى من الآيات على فكرة حقارة المادة التي جُبل منها الإنسان ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانْ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر: 26). وتُذكر حقارة المادة في الغالب مقترنة بمقابلها، وهو الجحود ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُون﴾ (السجدة: 7–9)، ومِثلها ﴿خَلَقَ الإنْسَانْ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ (النحل: 4)، ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (عبس: 17–18). وحتى عندما تُذكر الرفعة، سرعان يعقبها ذكر الوضاعة مباشرة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ (التين: 5–4)‫.‬

أما المجموعة الثانية فتصف فساد ‫(corruption)‬ طبيعته الخُلُقية، لكن هذه المرة من غير اقتران بالطبيعة الخلْقية. إنها طبيعة يخترمها الجحود والجدال والجهل والقنوط والإعراض والهلع.18 بل إن هذه الرذائل قد وردت بصيغة المبالغة كما في آيات: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ (هود: 9)، ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم: 34)، ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء: 11)‫.‬

لئن كانت المجموعة الثانية تصوّر الإنسان نهباً للشر الداخلي النابع من نفسه الأمارة بالسوء؛ فإن المجموعة الثالثة تصوّره نهباً للشر الخارجي أو للشر مشخّصاً، أي الشيطان. يأتي ذلك في آيات مثل: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف: 5)، ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ (الفرقان: 29)

وفي المجموعة الرابعة، يظهر الإنسان بصورة أخرى من صور الشر، وهي الجهل الذي يحتاج تعليماً: ﴿الرحمن، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1–3). ورغم أن هذه الآية لا توحي مبدئياً بأي جهل أخلاقي (انعدام معرفة الخير والشر)، بل بمجرد جهل معرفي يصلحه التعليم أو العلم الإلهي، فإننا في موضع آخر، وهو ليس أي موضع كان، بل أول ما نزل من القرآن، نجد أن هذا ”التعليم“ لا يلغي الجهل الأخلاقي الذي يتجلى في جحود نعمة التعليم نفسها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ، إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ﴾ (العلق: 1–8). و يظهر في آية ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (العنكبوت: 8) أن الإنسان محتاج إلى وصية تذكّره بواجب الإحسان إلى الوالدين، هذا الواجب الأوّلي الذي يفترض أن تهديه إليه فطرته أصالةً‫!‬

نختم بالمجموعة الخامسة والأخيرة، وتشتمل على آية واحدة فريدة، وهي آية الأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72). صحيح أن آيات المجموعات الأربع السابقة ذات حمولة ميتافيزيقية، لجهة أنها تصف ماهية الإنسان، السابقة على وجوده؛ لكن ربما كانت آية الأمانة أكثرها ميتافيزيقية. تتحدث الآية عن الإنسان، النوع لا الفرد، وتجري وقائعها في زمن ميتافيزيقي، خارج زمن العالم أو قبله، مثلها في ذلك مثل آية أخذ الميثاق.19 إنها آية فريدة، من جهة، لأن معناها لم تكرره أي آية أخرى؛ ومن جهة أخرى، لأنها بقدر ما تعلن نهوض الإنسان بأعظم مهمة وأخطرها، وهي حمل الأمانة،20 بقدر ما تصف هذا النهوض أو صاحبه بالظلم والجهل.21 فهل تكون ”إنسانية“ الإنسان شرّاً ومأساة بالمعنى الميتافيزيقي!؟22 نكتفي بطرح السؤال لأننا لا نعرف ما إذا كانت مبادرته إلى حمل الأمانة هي التي جلبت إليه المميزات التي صارت له بها الرفعة على المخلوقات ؛ أم أن هذه المميزات هي التي جلبت إليه الأمانة وحضّته على المبادرة إلى حملها.23

قد يقال بأن آية الأمانة هذه تتضمن بعض معاني الذات الأخلاقية؛ عنينا بها حمل المسؤولية. وبالفعل، فمفهوم الذات، على الأقل في اللغات الأوروبية التي اشتقت لفظه من اللاتينية ‫(subjectum)‬، يتضمن معاني التحمل، وبالتحديد معنى الدعامة الحاملة و“ما يوجد تحت.“ وحيث إن القرآن يسمي حامل هذه الأمانة/المسؤولية ب ”الإنسان“، أفلا يحتمل إذن أن يكون ”الإنسان“ هو اللفظ الحامل لمعنى الذات الأخلاقية في القرآن؟ لقد كان يمكن ذلك، لولا المسحة الميتافيزيقية التجريدية التي تغلّف مفهوم الإنسان في هذا السياق، والتي تجعله دالا على ماهية أكثر من دلالته على ذاتية مفردة‫.‬

بقيت آيتان لم نضعها تحت أي مجموعة؛ لأن إحداهما تنفرد بعدم تضمُّنها لأي معنى من معاني السلوب التي ذكرناها، أما الثانية فتبدو كما لو كانت تند عن تبويبنا وتنقض تعميماتنا‫.‬

الأولى هي آية ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)، التي تكتفي بأن تصف وصفاً محضاً إحدى مميزات الوضع البشري، التي سمّتها بنت الشاطئ ”هموم المكابدة“ (بنت الشاطئ 1993، 18، 19). ولئن كان البعض قد زعم بأن القرآن يتبنى وجهة نظر القاضي الذي يحكم للمطيع بالثواب وللمخطئ العاصي بالإدانة من دون أي عواطف أو تعاطف، ومن دون إفساح المجال للضعف الإنساني أثناء وصف الأفعال أو قصّ القصص ‫(Donner 1998, 75–77)‬، فإننا نرى، على العكس من ذلك، في مفهوم ”الكدح“، الوارد في هذه الآية، تصويراً متعاطفاً لمِحن ‫(trials)‬ الوجود الإنساني وآلامه.24 صحيح أن ”الكدح“ يعني: الْعَمَلُ والسعيُ والكسبُ.. ولكن هذه كلها معانٍ يمكن تأديتها بألفاظ أخرى ”محايدة“. الواقع أن الكدح يضيف إلى معنى العمل معنى المشقة المؤلمة بسبب طولها وبطئها؛ لأنه يدل، في معناه الملموس، على الخَدْشُ والجرح الناتجيْن عن طول الجز والحز بما يجعل أثرهما أكثر إيلاماً وأبعد غوراً. نقرأ في لسان العرب: ”والكَدْحُ بِالسِّنِّ: دُونَ الكَدْم بالأَسنان، وَالْفِعْلُ كَالْفِعْلِ؛ وَقِيلَ: الكَدْحُ قَشْرُ الْجِلْدِ يَكُونُ بِالْحَجَرِ وَالْحَافِرِ. وكَدَحَ جِلْدَه وكَدَّحه فَتَكَدَّحَ (…) [قال] ابْنُ الأَثير: الكُدُوحُ الخُدُوشُ. وكلُّ أَثَرٍ مِنْ خَدْشٍ أَو عَضٍّ فَهُوَ كَدْح؛ وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ الأَثر، وأَصابه شَيْءٌ فكَدَحَ وَجْهَهُ. وَحِمَارٌ مُكَدَّحٌ: مُعَضَّضٌ. والكُدُوح: آثَارُ الْعَضِّ، وَاحِدُهَا كَدْحٌ، وعَمَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الأَثر. قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: الكُدُوح آثَارُ الخُدوش. وَكُلُّ أَثر مِنْ خَدْش أَو عَضٍّ فَهُوَ كَدْح“ (ابن منظور ‫1993‬، 569/2–570)‫.‬

أما الآية الثانية، فهي: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً﴾ (الإسراء: 13). تنفرد هذه الآية بخصيصتين: أولاهما أنها تخاطب ”الإنسان العربي“ من خلال معهوده الثقافي، مادام أن العرب ” كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه“ (البيضاوي 1418هـ، 250/3)؛ أما ثانيهما وأهمهما فهي استعمالها صيغة ”كل إنسان“. ومعلوم أن ”كل“ تفيد وقوع الحكم على الاسم الّذي يليها وقوعاً تاماً، منطبقاً على كل واحدٍ واحدٍ من الأفراد. بعبارة أخرى؛ فالقرآن يخاطب هنا الكائن البشري الفرد، لا الماهية الإنسانية كما زعمنا. وهذا صحيح، بيد أنه الاستثناء الذي يلقي مزيدا من الضوء والمصداقية على القاعدة. يتضح ذلك جيدا من كلام ابن سينا الآتي: ”معنى قولنا: كل كذا هو كذا، هو أنه واحدٌ واحدٌ لا الكل جملة ولا الكلي. فليس معنى قولنا: كل إنسان، أنه كل الناس جملة، ولا الإنسان الكلى، بل إن كل واحدٍ واحدٍ منهم حتى لا يشذ شيء. فإنه ليس الحكم على الجملة هو الحكم على الأفراد. (…) ولا الحكم على الإنسان الكلي من حيث كلي يجب أن يكون حكما على الجزئيات كما علمت فيما سلف“ (ابن سينا 1964، 20). الحكم في هذه الآية، إذن، على الأفراد. ولكن ذلك معناه أيضا أن القاعدة هي أن القرآن، في ما خلا الآية التي بين أيدينا، يخاطب الماهية الإنسانية أو الإنسان الكلي، وليس أفراد نوع الإنسان واحداً واحداً. وأن كلمة ”إنسان“ تحتاج كلمة ”كل“ حتى تدل على الكائن الإنساني الفرد‫.‬

تلك إذن أهم مواضع ورود لفظ ”إنسان“ مُبوّبةً تحت ثيماتٍ خمسٍ. ثيمات متنوعة، لكن دلالة سلبية تخترقها جميعاً. بقي لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه ”السلبية“ حكماً أخلاقيا، أي حكما من أحكام القيمة (أحكام إدانة)، أم مجرد حكم من أحكام الواقع؟ مقارنةً بألفاظ تدل على مجموع البشر، مثل الناس، العباد، بنو آدم..، يشير لفظ ”الإنسان“، ككل مفهوم ذي دلالة وما صدق، إلى كلية من الكليات ذات الوجود الذهني لا العيني؛ وعليه نرى أن أوصاف العَجول والكَفور والقَنوط والمُجادل.. تتعلق بـ ماهية الإنسان، أكثر من تعلقها بـ وجوده المتعيّن.25 إنها أوصاف لواقع أكثر منها أحكامًا معيارية على هذا الواقع؛ واقع ميتافيزقي بالأحرى، صلبٌ صلابة الماهية التي بها قوام الشيء، فلا تكاد تبرحه إلا أن ينقلب موجوداً آخر! ومتى كانت هذه الأحكام وصفية لزم عنها أنها ليست أحكاماً أخلاقية؛ لأن هذه الأخيرة معيارية، وليست وصفية‫.‬

نخلص إلى أن لفظ ”إنسان“، في القرآن، لا يشير في الكائن البشري إلى ذاته الأخلاقية، ولا إلى ذاته اللا-أخلاقية ‫(immoral)‬ على حد سواء؛ بل اللفظ – إن شئت – يكثفّ العوامل التي يحتمل أن تكون مفسرة أو مسؤولة عن هذه اللا أخلاقية. بعبارة أخرى؛ فإن جزءًا من أنثربلوجيا القرآن، المستخلصة من استعمالاته للفظ ”إنسان“، تشرح لنا كيف أن طبيعة خُلُق الإنسان هي نتيجة ممكنة لطبيعة خَلْقه وخِلقته. وبسبب الخسران، الحالِّ بالإنسان أو المتربص به، يمكن أيضاً أن نرى في ثنايا هذه الأنثربلوجيا أمشاجاً لميتافيزيقا الشر الخاصة بالقرآن.26

2.2 الإنسان في الشعر الجاهلي: لفظ نادر

في مقابل هذه الموارد الكثيرة للفظ إنسان في القرآن مع حمولتها الميتافيزيقية الثقيلة، لا نجد اللفظ جارياً على ألسنة شعراء الجاهلية جريان لفظ مرء على ما سنرى في القسم الآتي. لا يرِد الإنسان في شعرهم إلا بعدد رؤوس الأصابع. واللافت للنظر أن هذا القليل متخفف من تلك الميتافيزيقا، ومتوزع بين أبيات تذكر الإنسان والموت معاً وترشح منها نفس عقيدة التوحيد المؤطرة للقرآن؛ وأخرى لا ينفصل فيها ذكر الإنسان عن المرء؛ ومجموعة ثالثة بعيدة عن كل مدلول أخلاقي بيّن‫.‬

ففي المجموعة الأولى بيتان لزيد بن عمرو بن نفيل الذي قيل إنه كان قد تألّه في الجاهلية ورفض أن يعبد الأوثان وأن يأكل مما ذبح عليها. وينسب البيتان إلى أمية بن الصلت أيضاً عند ابن هشام (ابن هشام 1955، 227/1)‫:‬

IMG000001

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

فضلا عن الثيمات التوحيدية (علم الله المحيط بكل شيء، نبذ الشرك)، من اللافت للنظر استخدامه صيغة ”أيها الإنسان“ التي توحي بجلال ‫(solemnly)‬ الموقف، مثلما يلفت النظر الحديث عن الدنيا وغرورها في البيتيْن الآتييْن، وهما من شعر هدبة بن الخشرم (ابن ميمون 1999، 225/8)‫:‬

IMG000002

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وللحارث بن حلزة هذان البيتان (1994، 111)‫:‬

IMG000003

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ثم أبو قلابة الطائي (ويعرف أيضا بالهذلي) الذي أنشد (البحتري 2007، 198)‫:‬

IMG000004

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

يقترن ذِكْر الإنسان بالموت في النماذج السابقة، والحال أن الموت تقترن بالأحرى، عند شعراء الجاهلية، بلفظ مرء على ما سنرى في القسم الموالي من هذا البحث. وما من شك في أن سبب خروجهم عن دأب بقية أقرانهم يعود إلى المنزع التوحيدي لهؤلاء الشعراء، إذا استثنينا منهم أبا قلابة. وهذا التزاحم في الوعي بين المرء والإنسان هو الذي يظهر أوضح ما يكون في أبيات المجموعة الثانية الآتية، التي لا يكاد يُذكر ”الإنسان“ في بيت منها إلا ويذكر ”المرء“ في البيت الذي يتقدمه أو يليه. من ذلك قول خراش بن مرة الضبي (البحتري 2007، 274)‫:‬

IMG000005

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وقول عبد المطّلب بن هاشم (البلاذري 1996، 69/1؛ البحتري 2007، 202)‫:‬

IMG000006

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وهذان البيتان لهدبة بن الخشرم (ابن ميمون 1999، 215/8)‫:‬

IMG000007

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ومثلهما، في تعاقب ”المرء“ و“الإنسان“، ما أنشده بلعاء بن قيس الكناني (هارون 1992، 102/1)‫:‬

IMG000008

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

بقيت المجموعة الثالثة والأخيرة التي يرِد فيها ”الإنسان“ بمعان متفرقة، وفيها المتلمس الضبعي الذي يسمى أيضا عبد المسيح، وهو خال طرفة بن العبد. له بيت يُذكر الإنسان في عجُزه، بيد أن الذي اشتهر هو صدره الذي صار مثلاً سائراً، قال فيه (ابن منظور 1993، 263/8)‫:‬

IMG000009

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ثم صفية بنت ثعلبة الشيبانية، التي تستعمل الإنسان كلقب تشريف في قولها (بنو بكر 1989، 422)‫:‬

IMG000010

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أما المتنخل الهذلي فيتحدث عن ”إنسان العين“، وهو حدقتها وقيل المثال الذي يُرى في حدقتها (الهذليين 1965، 33/2)‫:‬

IMG000011

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وأخيراً الشنفرى (1996، 33) الذي يستعمل ”الإنسان“ في معنى الإنس المقابل للجنّ:27

IMG000012

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

يتبيّن مما سبق أن لفظ إنسان لم يصادف هوى في نفوس شعراء الجاهلية،28 وأغلب الظن أن ذلك عائد إلى طابعه التجريدي ودلالته على كلية من الكليات؛ والحال أن ”العربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني مثلا“ (أمين 1969، 41). وبالمقابل جاءت استعمالات ”الإنسان“ حاملة لأصداء ”المرء“، سواء من حيث تجاور اللفظين في أبيات القصيدة، أو استدعاء أولهما تحت معنى الفنائية التي اختُص بها الثاني كما سيتضح من القسم الآتي بعد قليل. وفي جميع الأحوال، خلا اللفظ في الشعر الجاهلي من الدلالات التي مَفْهمَها القرآن تحته. وبذلك يكون القرآن قد دشّن حقاً النظر الفلسفي والميتافيزيقي في الإنسان. لا، بل إنه شيد نوعا من ميتافيزيقا الشر حول الماهية الإنسانية‫.‬

وما دام لفظ الإنسان يشير إلى عموم النوع، ومادام أن ”الإنسان لا يكلَّف إلا ما هو وسعُه وطوقُه لا بالنسبة إلى نوعه بل بالنسبة إلى شخصه“ (النيسابوري 1416هـ، 559/6)، فإن الشخص لا يمكن أن يحمل وزر ماهية نوعه ويتحمل مسؤوليتها. بقي الآن أن نحاجج، في ما يأتي، بأن ”المرء“ هو هذا الشخص الذي يُتوقع أن يرث، بحكم إنسانيته، هذه الطبيعة التي لنوعه، ويتحمل مسؤوليتها بوصفه ذاتاً أخلاقية‫.‬

3 المرء

إن لم تكن الدلالة الأخلاقية للفظ ”المرء“ نفسه قد حظيت بالاهتمام كما ذكرنا في بداية البحث، فثمة، بالمقابل، عناية ملحوظة بالدلالة الأخلاقية للفظ القريب منه، المروءة. كان إغناس غولدزيهر قد رسّخ في الدراسات الإسلامية التعارض بين المثاليْن ‫(ideals)‬ الأخلاقييْن لكلٍّ من العرب والإسلام؛ بحيث ما من فضيلة سامية في أعين العرب إلا وهي، في أعين الإسلام، رذيلة منحطّة، والعكس بالعكس صحيح ‫(Goldziher 1967, 1:19, 21)‬، ما يدعو إلى الاعتقاد أن الإسلام لا يقوم إلا على أنقاض المروءة التي لخصت المثل الأعلى الأخلاقي عند العرب. ويصور إيزوتسو بدوره المروءة على نحو يذكرنا بالقدَريين من المتكلمين، يقول: ”ينبني هذا المفهوم [المروءة] كما نرى على أساس اعتداد مفرط بالقدرة الإنسانية. وكان من الطبيعي أن يعمد كل من يستشعر هذه القدرة في أعماق روحه إلى تجسيدها في كل حركاته وسكناته، وإلى التصرف بنوع من عزة النفس والكِبر. وقد حوفظ على الوثنية نفسها، وهي دين الجاهلية الأصيل، ضمن حدود لا تمس عزة النفس هذه لدى مثل هؤلاء الأشخاص [التشديد مني]“ ‫(Izutsu 2002a, 143).‬ وبطبيعة الحال، فقد اصطدمت هذه ”القدرية“ بما جاء به القرآن من مطلب التذلل لله والخضوع لمطلق قدرته‫.‬

نعتقد أن التشديد على تعارض المروءة والإسلام يفترض حدوث قطائع تامة في تاريخ الأفكار الدينية والأخلاقية؛ والحال أن الجديد، وإن يكُ صرحاً كاملاً، مضطر للبناء بلبنات من القديم. لذا نميل إلى الاعتقاد، مع ماكس برافمان، بأن الاحتفاء بقيم المروءة قد استمر في الحقبة الإسلامية، وانضافت إليها مع مرور الوقت قيم جديدة ذات طابع ديني؛ والوثنيون العرب أنفسهم، رغم مقاومتهم للدين الجديد، لم يروا بين قِيمهم وقِيمه برزخاً أخلاقياً ‫(Bravmann 2009, 1–5).‬ وإلى نفس الرأي ذهب منتغمري واط، فالإسلام في نظره إنما أحدث قطيعة مع المعنى الديني للمروءة (الاعتداد بالإنسان وبأعماله، والاعتقاد بأن معنى الحياة كامن في عظمة المآثر الإنسان ‫Human excellence)‬، أما معناها الأخلاقي (بوصفها مثلا أعلى أخلاقيا تعبّر عنه الشجاعة والكرم والصبر والوفاء) فما عارضه القرآن، بل انتقد المكيين لتهاونهم في الوفاء بمقتضياته ‫(Watt 1953, 82).‬ وعليه، إذا كان إيزوتسو قد أثبت أن القرآن لم يمْح بعض المفاهيم، كالحلم والكرم، بل نسخ بعض معناها وأعاد توجيه دلالتها ‫(Izutsu 2002b, 235–238)‬، فإننا نعتقد أن ”النسخ“ نفسه، دون المحْو، قد طال المروءة. قد يقال: كيف ذلك ولفظ المروءة غير وارد في القرآن؟ والجواب عنه أن القرآن يستحضر المروءة ويحاورها من خلال مفهوم المرء؛ إذ لا يعقل أن يستعيد القرآن ويعيد تعريف مفاهيم/قيم جاهلية كثيرة قِبل الشكر والكفر والكرم والحلم.. ثم يضرب صفحاً عن المروءة، وهي أمّها. فكيف حضر المرء في القرآن وماهي المعالجة التي خضع لها؟ يقتضي منا ذلك أن نحدد أولاً معالم حضوره في الجاهلية وفي شعرها على وجه التحديد‫.‬

فطِن صلاح نتيج إلى أن لفظ مرء هو الذي يعّبر، أكثر من أي لفظ آخر، عن معنى ”الشخص“ البشري بالمعنى الحديث ‫(Natij 2017, 212).‬ وهو يرى أن جذور هذه الدلالة ترجع إلى الشعر الجاهلي، الذي يستعمل لفظ ”مرء“ بملمحيْن: « الملمح الأول هو الشخص الإنساني بوصفه معطى كونياً، يخوض معترك الحياة ويواجه الموت؛ أما الملمح الثاني فهو الشخص بوصفه ”فردية مستقلة ومسؤولة عما تقترف يداه.“29 ثم يأتي القرآن ليستعمل اللفظ بهذيْن المعنييْن أيضاً، ”واضعاً كل واحد أمام قدره الشخصي ومسؤوليته الفردية“ ‫(Natij 2017, 220).‬ بعبارة أخرى؛ إنما اكتفى القرآن بأخذ المعنى الأخلاقي جاهزا من الاستعمال العربي السابق، وبالتالي فهذا المعنى المُلابِس للفظ لا يدين بشيء لأي إضافة محتملة، لا من الإسلام (القرآن) ولا من الفلسفة الإسلامية ‫(Natij 2017, 207–208).‬ لا مراء في أن الفلسفة الإسلامية لم تضف شيئا ذا بال إلى الدلالة الأخلاقية للفظ ”المرء“، بل طرأ فيها على بريق هذه الدلالة خُفوتٌ لصالح مفهوم ”الإنسان“ كما سنرى قبيْل خاتمة البحث؛ بيد أننا نخالفه الرأي فيما يتعلق بالقرآن. وبيان ذلك أن في مفهوم المرء معنيان متمايزان: (أ) مواجهة القدر الشخصي و (ب) تحمل المسؤولية الفردية. ورث القرآن من الجاهلية المعنى الأول، لكنه أضاف المعنى الثاني. وحيث إن كل دعوى بصدد الدلالة القرآنية للفظ مرء تقتضي مقارنتها بالدلالة السابقة للفظ في الشعر الجاهلي، فسنصرف ما تبقى من الدراسة إلى محاولة التدليل على قضيتيْن‫:‬

‫(1)‬ أن الشعر الجاهلي يستعمل لفظ ”المرء“ ليدل به على ”الإنسان في مواجهة مصيره المتمثل في حتمية الموت والجبروت الصامت للدهر.“ وما أقرب هذا التصور إلى الفلسفة الوجودية في عصرنا الحالي30 بيد أنه لا أثر فيه لمعنى المسؤولية الفردية عن الأعمال، أو أنها باهتة لا تكاد تُرى؛

‫(2)‬ أن القرآن يستعمل لفظ ”المرء“ بشكل أساسي في معنى الذات الفردية المسؤولة أخلاقيا، مع لواحق دلالية أخرى لا تقل أهمية‫.‬

3.1 في الشعر الجاهلي: المرء فرد يواجه قدره

لو شئنا لنا أن نترجم ترجمة دقيقة إلى العربية، لغةً وثقافة، القياس الشهير القائل: ”كل إنسان فان، سقراط إنسان…“، لكان علينا أن نقول: ”كل امرئ فان، سقراط امرؤ..“؛ وذلك لأن ”مرء“ هو الذي يقترن، في الشعر الجاهلي، بالمنية أكثر من ”إنسان.31 عندما أراد عنترة بن شداد أن يعلم مخاطبته أنه كائن فان، قال (مفضل بن محمد 1920، 661)‫:‬

IMG000013

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وهذا لبيد بن ربيعة يصوّر ”المرء“ المفجوع لا محالة من الدهر بقوله (2004، 56)‫:‬

IMG000014

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ولما أراد إرشاد صاحبه إلى كيفية إكرام الميت عند دفنه، كان هذا المتوفي ”مرءا“ بالنسبة إليه (لبيد بن ربيعة 2004، 138)‫:‬

IMG000015

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

كذلك يرِد ”المرء“ في سياق حتمية الموت عند تأبط شرا (مفضل بن محمد 1920، 19)‫:‬

IMG000016

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ونعثر على نفس الصورة التي تجمع بين المرء وموته المحتوم في شعر بشرُ بنُ أَبي خازِم (1994، 94)‫:‬

IMG000017

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وعند أبي زيد الطائي (ابن أبي الخطاب د.ت.، 581)‫:‬

IMG000018

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وكذا النابِغَة الشيباني حين أنشد (1932، 95)‫:‬

IMG000019

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أو قوله (الشنتمري 1954، 244)‫:‬

IMG000020

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وعند دريد بن الصمة (ابن أبي الخطاب د.ت.، 470)‫:‬

IMG000021

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وحين أراد كعب بن زهير أن يعتب على المرء كثرة التسويف وإرجاء نفع أخيه إلى الغد، ذكّره بالدهر الذي يقضم أيامه وباليوم الذي سيصير فيه تحت التراب (السكري 1950، 257)‫:‬

IMG000022

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ونجد لدى شعراء آخرين تصويراً لحياة المرء بوصفها مجرد عارية لابد للمرء من ردّها ساعة يلقى حتفه. أنشد عديّ بن زيد (ابن عبد ربه 1983، 110/6)‫:‬

IMG000023

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

إلى أن قال‫:‬

IMG000024

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

لا ينفصل ”المرء“ في الشعر الجاهلي، إذن، عن ملمح تراجيدي، تلفّه معاني الموت والمصير المحتوم والدهر الجبار القاسم. وما ذلك بمستغرب؛ فقد ”كان الدهر أو المنية حاكماً مطلقاً، متقلب المشيئة والمزاج، وقد ضرب لكل امرئ أجلاً يلقى فيه حتفه“ ‫(Homerin 1985, 167).‬ ولذلك اعتقدت العرب بأن الحيوات والمصائر ماضية في مجرى الزمن الذي لا راد له، والذي عُبر عنه بالدهر والزمان والأيام والليالي ‫(Watt 1967, 73).‬ ولما كانت لحظة الموت نهاية قصة وجود المرء، فقد سادت نظرة إلى العالم سمّاها إيزوتسو ‫(Izutsu 2002a, 53)‬ بحق ضرباً يائسا من اللذّية ‫(desperate sort of hedonism)‬ مستشهدا لذلك ببيتٍ لعبيد بن الأبرص، يقول فيه‫:‬

IMG000025

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

من اللافت للنظر استمرار الترابط بين ”المرء“ والموت لدى الشعراء في الإسلام أيضا، كما في بيت منسوب إلى علي ابن أبي طالب (د.ت.، 210)‫:‬

IMG000026

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ومن شعر أبي فراس الحمداني (1994، 202)‫:‬

IMG000027

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وفي ديوان أبي العتاهية، نقع على لفظ مرء 95 مرة مقابل 6 مرات لـ ”الإنسان“، منها قوله (1887، 170)‫:‬

IMG000028

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أو قوله (1887، 285)‫:‬

IMG000029

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أو حين يصور المرء في اشتباك ومزايدة خاسرتيْن مع الموت (1887، 33)‫:‬

IMG000030

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

على أن هذه الاقتباسات لا تعني أن لفظ المرء لا يرد، عند شعراء الجاهلية، في سياقات أخرى غير سياق الموت والدهر؛ بيد أنها سياقات ثانوية، متنوعة وغير مطردة. وقد نجمع بينها بالقول بأنها ترسم ملامح الصورة الأخلاقية المثالية التي كانت للعربي عن نفسه. من هذه السياقات الثانوية مثلاً سياق مدح الحزم والتدبير، كما في قول تأبط شرا‫:‬

IMG000031

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ولكن حتى في هذا السياق كما نرى، لا يكاد ينفصل ذكر الحزم والتدبير عن ثيمة الدهر (النازلات المفاجئة). ومثلُه حضور معجم الموت عندما يذكر طَرَفَة بن العَبد ظلم الأقارب فيشبّه وقعه على نفس المرء بوقع السيف (ابن أبي الخطاب د.ت.، 333)‫:‬

IMG000032

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

وثمة سياقات أخرى لورود لفظ ”المرء“، يحضر فيها البعد الأخلاقي على نحو أوضح، كما في حديث طَرَفة عن تأثر المرء بأخلاق رفاقه (ابن أبي الخطاب د.ت.، 341)‫:‬

IMG000033

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أو الشنفرى (1996، 59)‫:‬

IMG000034

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

أو زُهَير بن أبي سُلمَى مذكّراً المرء بحقيقة أنه لا تخفى عن الناس خافية (1988، 111)‫:‬

IMG000035

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

عدا هذه السياقات الثانوية، تظل السياقات المهيمنة، إذن، هي سياقات اللقاء، وجهاً لوجه، بين المرء والموت، أو بالأحرى بين المرء وموته. وبتمثله لهذا المعطى المائز للوضع البشري ‫(Human condition)‬، يكون الشاعر الجاهلي قد تَمَثل فردية ‫(individuality)‬ الكائن البشري أيضا؛ تلك الفردية التي عبّر عنها طرفة حين أنشد ”فإن لم تكن تسطيع دفع منيتي ** فدعني أبادرها بما ملكت يدي“ (1901، 29). بيد أنها فردية وجودية،33 تصور بطلا تراجيديا يقف وحيدا في مواجهة قدره؛ وليست فردية أخلاقية قد يفهم منها معنى ”المسؤولية الفردية عن الأعمال“. وهذا خلاف ما اعتقده نتيج عندما اعتبر أن ”لفظ المرء يتخذ معنى الفرد المستقل المسؤول عن أعماله عند الحساب.“ ‫(Natij 2017, 215)‬ مستشهدا ببيت لـ لبيد بن ربيعة يقول فيه (2004، 85)‫:‬

IMG000036

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

الواقع أن هذا البيت لا يجعل صاحبه مؤمناً بشيء اسمه البعث والنشور فحسب، بل يجعله مؤمنا بالحساب والجزاء أيضا. وما أبعد هذا عن عقيدة العرب في الجاهلية! وهل أكثرُ مجادلة القرآن للعرب إلا في مسألة البعث والنشور؟ لم يكن العربي في الجاهلية يؤمن ببعث حتى يُتصور منه التفكير في الحساب على أعماله، اللهم إلا أن يكون لبيد استثناءً.34 كان وجود المرء ينتهي بموته، وعلينا أن نرى كل حديث عن بقاء المرء بعد موته، أي الخلود ”محصورا في نطاق هذا العالم، لقد كان الخلود يعني حرفيا حياة مديدة“ ‫(Smith and Haddad 2002, 203).‬ وهذا ما يثبته بيت زُهَير بن أبي سُلمَى (1988، 49)‫:‬

IMG000037

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

ومعناه أن كل ما يبقى من المرء هو ذِكر وذكرى وأخبار (أحاديث) تتركها أعماله في وعي الأحياء من بعده. من هنا حرص المرء على ”الذِكر الحسن“، الذي هو جزء لا يتجزأ من الصورة الأخلاقية التي له عن نفسه. ولهذا السبب عينه رأينا زهير ابن أبي سلمى قبل قليل يحذره من مغبة المخاطرة بهذا الذِكر (وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ …)؛ لأنه لا تخفى عن الناس خافية. لم يقترن تصور ”المرء“ في الشعر الجاهلي بفكرة الحساب؛ ولذلك فإن حديث طرفة بن العبد، الذي يستشهد به نتيج، عن حساب وشيك ينتظر المرء‫:‬

IMG000038

Citation: Journal of Islamic Ethics 5, 1-2 (2021) ; 10.1163/24685542-12340055

هو حديث نادر لم يرِد باطراد في أشعار غيره، حتى يشكل عقيدة راسخة يمكن أن ننسبها إلى الشعر الجاهلي، وأن نشتق منها دلالة ما لمفهوم المرء موثوقٍ بها. وفضلاً عن ذلك، فإننا في حالة طرفة أمام تأثير مسيحي على الأرجح، كما ذهب إلى ذلك الأب لويس شيخو الذي يعتقد بوجود آثار عقائد مسيحية في شعره، كما في شعر غيره من شعراء بني بكر المتأثرين بالنصرانية. (شيخو 1989، 422–421). وحتى عندما قلنا أعلاه أن العرب قبل الإسلام قد استشعروا واستعظموا جبروت الدهر، فإن ذلك لم ينته بهم إلا أي نوع من تأليه هذه القوة الجبارة ‫(Crone 2013, 2; Watt 1967, 73).‬

من المؤكد أن الجاهلية لم تجهل معاني الذات الأخلاقية المسؤولة قِبل: تحمل الفاعل لتبعات فعله ماديا ومعنويا، تعويض المتضرر، تأنيب الضمير…؛ ولكن لم تتم مفهمة هذه المعاني من خلال لفظ ”المرء“. وكما سنرى بعد قليل أدناه، يقرن القرآن غالباً بين ”المرء“ والمسؤولية عن أعماله، بوضعه في موقف المطالَب بأن ”يجيب“ عنها أمام المحكمة المنصوبة يوم القيامة. وفي المقابل -كما رأينا- تغلب على المعنى السياقي للفظ ”المرء“، في الشعر الجاهلي، فكرة الفردية أو الكائن الفرد، الذي تتعمق فرديته لأنه كائن حامل لقدر وجودي يواجهه وحيداً (عبد الصبور 1982). والقرآن، في استعماله لفظ ”مرء“، يشغّل هذه الدلالة، على نحو غير مباشر، من وجهين: أولا، لأن هذه الذات الأخلاقية المسؤولة، التي عليها أن ”تجيب“ أمام الله عن أفعالها، إنما ستفعل ذلك بعد أن تمر بجسر الموت الذي ركز عليه الشعر الجاهلي. وثانياً، لأن الموت شأن فردي، إذ لا أحد يموت مكان الآخر، وكذلك المسؤولية الأخلاقية‫.‬

3.2 في القرآن: المرء فردية أخلاقية مسؤولة

يُعرف عن مفسري القرآن استغراقهم أحياناً في إنشاءات فكرية مبتكرة ‫(ingenious speculations)‬ تحرياً منهم للفروق الدقيقة بين المترادفات، أو بياناً للنكت والفوائد في قول القرآن كذا بدل كذا؛ بيد أن لفظ مرء، سواء في حد ذاته أو من حيث اختلافه عن إنسان أو رجل، لا يسترعي انتباههم.36 لم يشذ عن هذه القاعدة، بحسب ما نعلم، غير مفسر معاصر أتى بإشارة دالة، وإن تَكُ عابرة، فقال: ”فإذا كان النظر إلى مجرد الذَكَر من حيث هو فيعبّر عنه بالرجل، بخلاف المرء. فيلاحظ فيها مفاهيم الشخصية والاستقلال والاستقامة وسائر صفات المروءة. وكذلك كلمة المرأة تلاحظ فيها هذه الخصوصيات إذا لم تذكر في قبال الرجل بل منفردة“ (العلامة المصطفوي 2009، 60/11. التشديد مني). سنفحص الآن سياقات ورود ”المرء“ في القرآن لنبيّن صواب هذه الإشارة من هذا المفسر، وسيتضح أن القرآن يستعمل هذا اللفظ ‫(I)‬ مستثمرا ومعمِّقاً دلالة المرء على الشخص بما هو فردية؛ ‫(II)‬ مخففاً من التفريد ‫(individuation)‬ السابق ومعترفاً بالروابط الاجتماعية لهوية المرء، بما هو كيان ملموس؛ وأخيرا ‫(III)‬ منتقداً استحقاقات معينة يطالب بها المرء باسم المروءة.

المجموعة الأولى

انتهينا إلى أن المرء، في الشعر الجاهلي، هو ”الإنسان من حيث هو فرد يواجه موته“، وتلك أخص خصائص وجوده وفرديته. وصحيح أن القرآن لا يفتأ بدوره يؤكد على حقيقة فناء الإنسان وحتمية موت كل نفسٍ نفسٍ،37 بيد أنه لا يفعل ذلك، صراحةً، في الآيات التي يكون ”المرء“ فيها موضوعاً أو مسندا إليه ‫(subject).‬ فكأن القرآن يفترض أن لفظ المرء حامل أصلاً لهذه المعاني في المجال التداولي العربي، على ما بينّا أعلاه. وبذلك يستثمر القرآن هذه المعاني ويبني فوقها طبقة دلالية جديدة: المسؤولية الأخلاقية الفردية. يتجلى ذلك واضحاً في آيات المجموعة الأولى الآتية (التي نرقّمها لتسهل الإحالة عليها لاحقاً)‫:‬

  • ‫(1)‬ ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ (النبأ: 40)

  • ‫(2)‬ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ (النور: 11)

  • ‫(3)‬ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ (الطور: 21)

  • ‫(4)‬ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ (عبس: 37–34)

  • ‫(5)‬ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس: 37)

  • ‫(6)‬ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)

هذه ستة مواضع، من أصل أحد عشر موضعاً، يرد فيها لفظ مرء. وباستثناء الثانية، يلاحظ أن زمن الحدث في هذه الآيات هو موقف الحشر الذي يساق إليه الناس بعد قيامهم من الموت. داخل هذا الموقف، تضع الآية الأولى المرء وجهاً لوجه أمام أعماله لكي ينظرها. وهذه أوضح معاني المسؤولية في بعدها الأخلاقي، بما هي مسؤولية الفرد أمام نفسه، وتقييمه بنفسه لعمله وحكمُه عليه، قبل أن يتلقى الحكم من حَكم أو حاكم خارجي. لا يتعلق الأمر بذات فارقت حياتها، وواجهت موتها مفردةً؛ بل بهذه الذات عينِها وهي تواجه الحصيلة الأخلاقية لحياتها التي سبقت موتها.. وترِد الآية الثانية في سياق ”حديث الإفك“ للتنبيه على أن اشتراك جماعة في القذف وتداول ”الحديث“ الآثم بينهم لا يجعل المسؤولية، مع ذلك، جماعية؛ فلكل فرد نصيبه المعلوم مما كسب، و”لكلٍّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصاً به“ (البيضاوي 1418ه، 100/4). وفضلاً عن ذلك، تضيف هذه الآية (والتي تليها) إلى معنى المسؤولية معنى الفردية المتضمَّن في لفظ ”كل“، الذي يفيد وقوع الحكم على الاسم الّذي يليها وقوعاً تاماً، منطبقاً على جميع الأفراد الذين يقعون تحت هذا الاسم. وتتكفل الآيتان الرابعة والخامسة بتصوير هذه الفكرة المجردة (أي الفردية) تصويراً محسوساً، على هيئة فرار من الخِلّ والعشيرة أو انشغال بالشأن الخاص.38 وباستحضاره المرء في موقف الحشر، يسعى القرآن هنا إلى وصل الطابع الفردي للموت (الفردية الوجودية) بالطابع الفردي للمسؤولية (الفردية الأخلاقية). والحال أن الحياة الأخلاقية في الجاهلية لم تكن واقعة تحت مبدأ المسؤولية الجماعية فحسب؛ بل افتقرت إلى عقائد دينية من شأنها أن تشحذ في الضمائر فكرة المسؤولية الفردية، من قبيل عقيدة البعث والحساب. ولذا جاء الإسلام بفكرة تقوى الله وخشيته؛ لأن ”من شأن الخوف من الله، رب يوم الحساب، أن يبث في روع المؤمن وعيا واضحا بأن الحياة أمر جدي جلل، بما يدفعه إلى الجدية والمسؤولية الأخلاقيتيْن.“ ‫(Izutsu 2002a, 54).‬

لا تضع هذه المجموعة من الآيات الإنسان وجها لوجه أمام أعماله فحسب؛ بل هي تصوّر هذه المواجهة في موقف جديد على الوعي الديني العربي؛ موقف الحشر، حيث تتبخر كل الروابط الدنيوية، وبخاصة روابط القرابة (الأخ، الأم، الصاحبة..)، باستثناء الرابطة التي تشد الذات إلى عملها. وكأن كل شيء، بلغة أفلاطونية، كان وهماً إلا الأعمال! والواقع أن مواجهة الذات لعملها هي فكرة جديدة تماماً بقدر ما هي محيرة للوعي الوجودي لدى الإنسان العربي قبل الإسلام. لم يكن هذا الوعي يجهل بأن ”الرجل هو عمله“، قيدَ حياته وبعد مماته؛ بيد أنه ”لم يكن يتصور خلوداً أخروياً بعد الموت؛ فكان الأمل معلقا على خلود في ذاكرة الأهل والعشيرة“ ‫(Smith and Haddad 2002, 155).‬ وتبعاً لذلك، لم يكن يتصور أعماله (ولا الحكم على أعماله) بمعزل عن عشيرته وقبيلته. كان العربي يستودع أخلافَه أعمالَه! وكان أقصى ما وصل إليه هذا الوعي هو فكرة ”وقوف أعمال المرء أمام المحكمة الأخلاقية للخَلَف والذرية“، لتنظرها وتحكم عليها، إما مدحاً حين تتداولها ذِكراً حسناً وشرفاً (لسان صدق في الآخِرين)؛ أو ذماً حين تتداولها ذِكراً سيئاً وعاراً (لسان سوء في الآخِرين).39 إنه نوع من المعنى الجماعاتي ‫(communitarian)‬ لـ ”المرء“ وللفضيلة؛ والحال أن ”فكرتنا المعاصرة، التي تجعل الفضائل الأخلاقية صفات شخصية محمولة على ذات الفرد، لم تكن معروفة عند العرب الوثنيين. كانت الفضائل الأخلاقية ممتلكات جماعية ‫(communal possessions)‬ يرثها الخلف عن السلف“ ‫(Izutsu 2002a, 62).‬

بقيت الآية رقم (6)، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)، التي يستمر فيها حضور ثيمة الموت من خلال فكرة الحشر، لكننا نقع فيها على ثيمة جديدة. تنطوي هذه الثيمة على علاقتيْن: الأولى ثنائية (المرء وقلبه)، والأخرى ثلاثية (الله، المرء وقلبه). يصير المرء، بموجب العلاقة الأولى، ذاتية ‫(subjectivity)‬ حقيقية، صاحبة أعماق، أو ما يمكن تسميته أعماق السريرة.40 ولا يفتأ القرآن، في مواضع أخر، يذكر هذه السريرة؛ بيد أنه يذكرها ليثبت علم الله الذي لا يعزب عنه شيء وإن كُتم في ذات الصدور أو واستتر في القلوب أو خفي داخل النفوس.41 أما في موضعنا الحالي فهو يذكرها لمعنى مغاير يوحي بوجود علاقة حميمة بين المرء وقلبه (ذاتيته) لا يكاد يُتصور انفصام عراها أو فك ما تنشئه من مطابقة‫(identity)‬ ؛ ولكنها مع ذلك لا تُعجز القدرة الإلهية. ينقلنا ذلك إلى العلاقة الثانية التي تضم الله والمرء وقلبه. لم يهتم المفسرون بالعلاقة الأولى، لكن هذه الثانية أشكلت عليهم فطفقوا يتأولون معنى الحيلولة، وإمكان دلالة الآية على الجبر أو الاختيار، وهو ما يزيد لفظ المرء دلالةً على الذات الأخلاقية.42 ولعل أقرب التفاسير توافقاً مع مثل هذه الدلالة ما كتبه العز بن عبد السلام. فبعد أن نقل ما قيل من أن ”الحيلولة“ المذكورة في الآية هي بين المؤمن والكفر، استدرك متوسّعاً فأضاف أنها قد تكون ” بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل، أو بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه، أو هو قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفي عليه سره (…)، أو يفرق بينه وبين قلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت، أو بينه وبين ما يتمنى بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر“ (العز بن عبد السلام 2008، 237). إن أهمية ما ذكره العز بن عبد السلام هنا غير خافية؛ ففضلا عن إشارته إلى ثيمة الموت التي مرّ معنا ذكرها، فإنه قد انتبه إلى أن المرء وقلبه متحدان لا يمكن تصور إمكان الفصل أو التدخل بينهما ومع ذلك فقدرة الله تستطيع بلوغ هذه المنطقة الحميمية من مناطق الهوية الوجودية للمرء؛ عنينا بها تطابُقه ‫(identity)‬ مع قلبه.43

المجموعة الثانية

تختلف المجموعة الثانية من ”آيات المرء“ عن سابقتها في أن القرآن يقوم هنا بالحركة المعاكسة للتفريد الذي حرص عليه هناك؛ أي أنه يعيد وضع المرء/الفرد ضمن إحداثيات جماعته، جاعلاً منه رب أسرة، يمارس الدورين الاجتماعيين الرئيسيين لكلٍّ من الأب والزوج. والآيات هي‫:‬

  • ‫(7)‬ ﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ (النساء: 176)‫.‬

  • ‫(8)‬ ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ (البقرة: 102)‫.‬

  • ‫(9)‬ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ (مريم: 28)‫.‬

يرِد ذكر المرء، في الآية (7)، في مقام الموت. ولفظ المرء – كما رأينا – لم يكن ينفصل في الوعي العربي قبل-الإسلامي عن المنيّة التي هي سيف الدهر يسلطه على الناس عند بلوغ آجالهم. ولكن السياق ليس سياق موت فحسب، بل سياق إرث وعلاقات قرابة أيضا، حيث المرء فردٌ منظوراً إليه ضمن إحداثيات جماعته. وهو ما نقع عليه أيضا في الآية (8)، التي تتناول المرء، على نحو فريد،44 ضمن حميمية العلاقة الزوجية. وكنا قد رأينا، في الآية رقم (4) أعلاه، أن الزوجية واحدة من الروابط التي تنفصم عراها في الآخرة، بما يجعل تلك الآية صورة معكوسة للآية الحالية. بعبارة أخرى؛ إن كانت آيات المجموعة الأولى أعلاه تعمل على تفريد المرء، بعيدا عن الجماعاتية الأخلاقية التي تذيب الفرد الأخلاقي بأن تشده إلى إحداثيات الجماعة، فإن آيات المجموعة الثانية تحافظ على بقايا دلالية ‫(semantic residues)‬ من هذا المعنى الجماعاتي. ينطبق ذلك أيضا على الآية الأخيرة ضمن المجموعة الحالية؛ حيث تنسجم الإشارة إلى أبي مريم بلفظ ”امرؤ“ مع التصور العربي للإنسان بما هو مرء، يموت ويغادر عالم الأحياء، فيستمر عِرضه رهن عِرض عشيرته، وحيث حسن (أو سوء) الذِكر جزء لا يتجزأ من الهوية الأخلاقية للإنسان بوصفه امرأً. ومن المحتمل كذلك أن استعمال امرؤ هنا يزيد من مفعول العجب والاستنكار على قاعدة التضاد القائم بين السوء المعايَن ظاهريا في فعل مريم والحسن المفترض في ”امرؤ“.45

تلك إذن ثلاث آيات حافظ فيها القرآن على بعض المعاني أو ظلال ‫(connotations)‬ المعاني التي كانت للفظ ”مرء“ في الدلاليات العربية قبل-إسلامية. وما كان للأمر أن يكون بخلاف ذلك؛ لأن ما من قطيعة تكون تامةً، اللهم إلا باستخدام لفظ جديد لم يعهده الناس من قبل، ولم يشحنوه بأيّ دلالة، وهذا أمر متعذر، يستحيل معه الخطاب والفهم! وإذ تذكر الآية (7) الإرث والقرابة، ويُذكر في الآية (8) المرء في علاقته بزوجه، وكذلك أبو مريم في الآية (9)؛ فإن القرآن بذلك يقدم لنا فعلاً المرء، رب الأسرة، داخل شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتضافر لبناء هويته؛ أي الفرد في ملموسيته، لا الإنسان الكلي المجرد‫.‬

متزودين بهذه الخلاصات، يمكننا الآن الرجوع إلى آيتين من آيات المجموعة الأولى أعلاه لنقرأهما تحت ضوء جديد. ففي الآية (2) نرى لفظ امرئ هناك منسجماً والسياق، سياق حديث الإفك؛ لأن الإفك حديث سوء، ماس بشرف رب أسرة (الرسول) ومروءته. وفي الآية (4) نرى أن صورة الفرار من الأخ والصاحبة والولد، وإن كان هدفها تجسيم الطابع الفرداني المطلق للكينونة الإنسانية في موقف الحساب والمسؤولية، إلا أنها، مع ذلك، تفترض استمرارية الهوية الشخصية بين عالمي الدنيا والآخرة؛ ذلك أن المرء لا يمكن أن يفر من أقاربه وأهله إلا إذا تعرّف عليهم أولا، ولا يمكن ان يتعرف عليهم إلا باستمرارية وعيه.46

المجموعة الثالثة

إذا كان القرآن، في آيات المجموعة الثانية، يستعيد لحسابه الخاص معاني وظلال معاني كلمة مرء في الإيثوس العربي، فإنه لا يستعيدها إلا متى وافقت منظوره الأخلاقي الجديد. فإن ناقضته، تكون الاستعادة استعادة نقدية. ومن الواضح أن آيات المجموعة الأولى، ما خلا الثانية منها، تقوم تحديدا بهذه المراجعة النقدية من خلال وضع المرء في موقف الحساب الأخروي، جاعلة منه ذاتا فردية تامة الفردية في حركتيْن: تعزله، أولا، لتضعه في مواجهة عمله، ثم تفتَكّه، ثانياً، من شبكة الروابط، التي كانت تشوّش ‫(blur)‬ صفاء هذه الفردية، لجهة أنها تمنحه نوعاً من الأمان عندما يحس بتضامن ذاته مع الذوات الأخرى المكوّنة للأسرة والقبيلة. نقع على هذه الاستعادة النقدية للمعاني ما قبل-الإسلامية أيضا في الآيتين الآتيتيْن، وهما آخر ما بقي لنا ذكره من ”آيات المرء“ في القرآن‫:‬

  • ‫(10)‬ ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ (المعارج: 38)؛

  • ‫(11)‬ ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ (المدثر: 52)‫.‬

تتحدث الآيتان عن طموحيْن للمرء: دخول الجنة وتَلقّي الصحف.47 ولا يمكننا فهم أسباب استخدام لفظ المرء هنا من دون أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذين الطموحيْن هما شكلان من أشكال التكريم الذي يجد كل ”امرئ“ نفسه مدعوا إلى نُشدانه. وتذكر كتب التفاسير أن الآية الثانية أعلاه نزلت لأن أهل مكة قالوا بنبرة السادة المعتدّين بأنفسهم: ”إن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد، فلندخلنها قبلهم“ (أبو حيان الأندلسي 2010، 276/10)، أو ”لو صح ما يقوله لنكون فيها أفضل حظاً منهم كما في الدنيا“ (البيضاوي 1418هـ، 247/5). وهنا يكتسب لفظ المرء، في اتصاله بلفظ مروءة، مزيدا من الدلالة الأخلاقية؛ لجهة أن المروءة لم تكن تنفصل عن الرفعة والكرامة، أو بالأحرى عن تصور معيّن للكرامة الشخصية وضرورة صوْنها وتنميتها.48 وهي كرامة تشتغل في اتجاهين: تنظر إلى الأعلى فتنشد السؤدد، أو ما يسمّونه علو الهِمّة؛ ولكنها أيضا لا تغفل عن الأسفل فتتوقّى سفاسف الأمور وخوارم المروءة.49 ومن المحقق أن ”الجنة“ و“الصحف“ هما سؤدد، أحدهما مادي والآخر معنوي، يخامر كل امرئ، في سعيه وراء مثال ‫(ideal)‬ المروءة. وقد لحظ محمد عابد الجابري هذا الملمح في المروءة عندما قال بأن ”المروءة هي ملتقى مكارم الأخلاق يتم تحصيلها ببذل الجهد وتحمل المشقة، وهي تُكسب صاحبها، في مقابل ذلك، احتراماً وتقديراً وتجعله قدوة وذا كلمة مسموعة (..) ومن هنا كان شيخ القبيلة، الجامع لصفات المروءة، يتحول إلى سيد.50 فالمروءة من هذه الناحية هي الطريق الملكية نحو السؤدد“ (الجابري 2001، 531).

وقد قدّر الجابري بأن هذه هي ”نقطة الضعف الخطيرة في أخلاق المروءة، أقصد كونها تقع تحت السؤدد: فالخصال الكثيرة التي تتطلبها والمشاق العديدة التي لابد من تحملها ليست غاية في ذاتها۔ ليست من أجل أنها خصال الخير ومشاق في سبيل فعل الجميل فحسب، بل هي أيضا من أجل ما ينتج عنها من رفعة وسؤدد.“ إن صحّ تأويل الجابري، فسيكون أسلوب القرآن، في الآيتيْن السابقتيْن، أسلوب إزراء بهذا الطمع الذي يخالج نفس ”المرء“، ويخالط المروءة، فينزع عنها طابعها الأخلاقي الخالص، مانعاً إياها من أن تكون مثالا أخلاقياً مطلوباً بوصفه غاية في ذاته، لا مجرد وسيلة إلى السؤدد أو سواه من الأغراض. وكأن القرآن يطالب المرء، باسم تصور معين للمروءة، بالتخلي عن تصور آخر للمروءة، يرى القرآن أنه ليس أخلاقيا خالصاً؛ بينما المروءة سعي في سبيل الجميل فحسب، كما قال الجابري. يتطلع طالب السؤدد إلى تعميم الوحي باعتباره كرامةً،51 وذلك ممتنع لأن النبوة اصطفاء. لذا اقترح القرآن مثالَ ‫(ideal)‬ التقوى بديلاً يمكن أن تتجه إليه رغبة المرء في تنمية كرامته ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13). وإذ ينكر القرآن على ”المرء“ مطالبته بكرامة الوحي، ويقرّعه لأنه يطمع في استمرار الكرامة في حالة ما إذا كان هناك نشور، فتكون له جنة هناك كالتالي له في الدنيا؛ فإنه (أي القرآن) يخاطب ويجادل، مع ذلك، هذه الكرامة التي ينطوي عليها لفظ ”المرء“ (ويستشعرها المرء)‫.‬

تلك هي المواضع الأحد عشر لورود لفظ مرء في القرآن. ومن استعراضها يتبيّن أنه، إذا كان القرآن ينوّع أسماء الكائن البشري فيتوجه إلى مخاطبيه أو يتحدث عنهم بألفاظ مثل الإنسان وابن آدم والناس..؛ فإنه، إذ يستعمل ”المرء“، إنما يتوجه إلى مستمعه بأشرف الألقاب، التي تخاطب فيه كرامته والصورة الرفيعة التي له عن نفسه (مروءته) وحرصه على سمعته التي لا تنفصل عن سمعة زوجه وأهله، فضلاً عن أنه –كما رأينا أعلاه- يخاطب فيه طبيعته الفانية ومواجهته الفردية لهذا الفنائية ‫(Mortality).‬ وهو، في الحساب الأخير، يخاطب فيه الكيان المفرد المسؤول المحاسَب‫.‬

4 مرء ونفس وشخص

بعد تجميع ‫(reconstruction)‬ عناصر البنية الدلالية للفظ مرء في القرآن، لا يسعنا إنهاء هذا البحث من دون استثمار هذه الحصيلة لإلقاء ضوء على لفظ أول يحتمل أن ينافس ”المرء“ في تمثيل الإنسان، بما هو شخص، أمام الله، وإليه انصرفت عناية الدارسين؛ وعلى لفظ ثان قد يقوم مقام ”المرء“ ما دمنا، نحن أنفسنا، كنا نستخدمه طوال هذا البحث؛ عَنَيْنا بالأول ”النفس“ وبالثاني ”الشخص‫.“‬

ترِد ”النفس“ في سياقات حبلى بالدلالة الأخلاقية؛ إذ تجيء في مواضع دالة بوضوح على معنى الذات الأخلاقية والفاعل الأخلاقي، وذلك في الآيات التي تتناول التكليف والاستطاعة والكسب والجزاء مثل آية ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة: 286) أو ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾ (آل عمران: 30) وآيات أخرى كثيرة.52 وبهذا المعنى، فإنها قد تنافس ”المرء“ على تمثيل الذات الأخلاقية. ولكن قوة هذه المنافسة تتضاءل لأن لفظ النفس يظل يعاني من انطوائه على دلالات كثيرة تزاحم دلالته الأخلاقية هذه. وتبلغ هذه الدلالات كثرةً تدخل بها ”النفس“ كتب الأشباه والنظائر عن جدارة واستحقاق. بعض هذه الدلالات لا علاقة لها بالشخص الأخلاقي، وبعضها الآخر يشوش على معنى الشخص الأخلاقي نفسه‫.‬

فيما يخص الدلالات البعيدة عن المعنى الأخلاقي، نجد المعنى الميتافيزيقي كما في آية ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: 1)، والتي قال عنها ابن الجوزي إنها واحدة من وجوه ثمانية للفظ النفس وتعني آدم (ابن الجوزي 1984، 595). وهناك المعنى الحيوي؛ أي دلالتها على مبدأ الحياة الذي تلحقه الموت، كما في آية ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ (آل عمران: 145)، وكذا الآيات التي يُذكر فيها القتل والقصاص (النساء: 29؛ المائدة: 32، 45). ولذا جعل الجرجاني أول تعريفات النفس أنها ”الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية“ (الجرجاني 1983، 242).

أما الدلالات المشوِّشة على معنى الشخص الأخلاقي نفسه فهي أكثر ما يجعل النفس، في القرآن، أبعد عن الدلالة على الذات الأخلاقية؛ وذلك لأنها تضيف ضروباً من التكوثر، تقوّض الوحدة المفترضة في الذات الأخلاقية، وذلك من وجهيْن‫:‬

أ- تكوثر النفس. فهناك المطمئنة واللوامة والأمارة (الفجر: 27–30؛ القيامة: 1–2؛ يوسف: 53). ولعل هذا التعدد مما سهّل على مفكري الأخلاق في الإسلام تبْيِئة نظرية الأنفس الثلاثة الأفلاطونية، الشهوانية و الغضبية والناطقة، مع كل ما يستتبعه ذلك من ديناميات بينها (الأحمد نكري 2000، 221؛ العاني 2005، 82–83)‫.‬

ب- تكوثر الذات. قد يُحتج بأن التكوثر الأول حاصل لا في عين النفس (التي تظل واحدة)؛ بل في صفاتها التي تتلبسها حالاً بعد حال.53 ومع ذلك يظل للنفس تكوثر ثان تخلقه داخل الذات؛ وذلك عندما تنشق عن الفاعل، وتغدو عنصراً مستقلا، فاعلاً أو مفعولاً به. فهي، في الحالة الأولى، توسوس للفرد، تسوّل له، وتشوش عليه استقامته الأخلاقية على نحو يذكرنا بالحمولة السلبية للفظ إنسان: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (يوسف: 53 وكذلك يوسف: 18)، ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه﴾ (ق: 15؛ ومثلها في النساء: 79)، حتى قال الغزالي: ”اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء نزاعة إلى الشر“ (الغزالي 2016، 504/4). ومثلما تصيّر النفس صاحبها موضوعا لفعلها، يصيّرها صاحبها موضوعاً أو مادة ينصب عليها فعله الأخلاقي، كما في ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 10–9) وآيات أخرى.54 وثمة موارد أخرى أكثر إشكالية كما في آيات ظلم النفس كما في ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ (الأعراف: 130، ومثلها في النمل: 44؛ القصص: 16؛ الطلاق: 1). والإشكالي في هذه الآيات وقوع الظلم على النفس بما يضع استحقاقها للعقاب – وهي المظلومة – موضوع سؤال، وبالتالي هوية هذه الجهة المقترفة للظلم في حق النفس.55

إذا عدنا الآن إلى ”المرء،“ في موارده الأحد عشر في القرآن، نجده يحتفظ، في مقابل هذا التكوثر الذي يصيّر الفاعل منقسماً على ذاته، بنوع من الميزة الإدماجية، الضامنة لوحدة الأنا وهوية الشخص. صحيح أن لفظ ”النفس“ قد ”يراد به حقيقةُ الآدمي وذاتُه؛ فإن نفسَ كلِّ شيءٍ حقيقتُه“ (الغزالي 1975، 15)؛ لكنها، مقارنة مع المرء، لا تحمل أهم معاني الشخص؛ عنينا بها الكرامة والصورة الرفيعة التي للعربي عن نفسه وجماعته (زوجه وأهله)‫.‬

على الرغم من كل هذه الامتيازات التي ينفرد بها المرء، مقارنة بالنفس وبالإنسان قبل ذلك، فإن اللغة العربية الحديثة قد اختارت لفظ الشخص، مقابلا لـ ‫(person)‬، للتعبير عن الفرد البشري بما هو كيان أخلاقي وحقوقي، تتعلق به خصائص الهوية والكرامة والمسؤولية. والحال أننا لو نظرنا إلى الحمولة الأخلاقية الراجحة للفظ مرء،56 وإلى السند العالي المتمثل في القرآن – كما بيّناه – وفي الاتصال اللغوي بلفظ المروءة، لما كنا مجازفين لو قلنا بأن لفظ مرء كان منذوراً لأن يكون له، في المجال التداولي العربي الحديث، شأن آخر غير الشأن المتواضع التي انتهى إليه حالياً. وبالمقابل، لا شيء في ماضي ”الشخص“ يدفع إلى التنبؤ له بهذه ”الحظوة“ المعاصرة؛ فهو حاضر لفظاً في الشعر الجاهلي، لكن بمعنى لا يتجاوز المستوى المحسوس؛57 أما في القرآن فيغيب لفظاً ومعنىً،58 وإن كنا نقع عليه في حديث نبوي.59

بدأ لفظ شخص في العربية محسوساً، ثم طرأ على دلالته انزياح أول نحو التجريد، فحُمل عليه معنى الذات المجردة. وإننا لنجِد المعنى الحسي الأصلي وانزياحه، معاً، متجاوريْن في عبارة واحدة عند ابن منظور (ابن منظور 1993، 45): ”الشَّخْص: كلُّ جِسْمٍ لَهُ ارْتِفَاعٌ وَظُهُورٌ، والمرادُ بِهِ إِثباتُ الذَّاتِ فاسْتُعير لَهَا لفظُ الشَّخْصِ.“ وهكذا صار لفظ الشخص دالاً أيضا على الفرد بالمعنى المنطقي، أي عمرو أو زيد من الناس،60 وبه أخذت الفلسفة الإسلامية التي ”استعملت اللفظ في الغالب بمعنى محايد للدلالة على الفرد بكل بساطة“ ‫(Netton 1966–2002, 247)‬، وهو ما يتضح جليا عند ابن سينا (ابن سينا 1952، 70–71). أما الانزياح الثاني، فهو الذي مال بموجبه القدماء إلى استعمال لفظ ”الإنسانية“ مرادفاً، وفيما بعد مزاحماً، للفظ المروءة، حتى صار أبو حيان التوحيدي يقول: ”المرء هو الإنسان والمروءة هي الإنسانية“ (التوحيدي 1988، 95/5)؛ متأثراً، على ما يبدو، بحركة الأسهم الدلالية التي شهدها السوق اللغوي آنذاك تحت تأثير ظاهرة الترجمة من الفلسفة اليونانية.61

وبتأثير الانزياحين، جرت زحزحة ”المرء“ عن عرش حقوقه الدلالية الأخلاقية الغنية. وحلّ، في نهاية الأمر، لفظ ذو إيحاءات منطقية تجريدية (شخص) محل آخر ذي إيحاءات أخلاقية ملموسة (مرء).62

5 خاتمة

في الوقت الذي يتفق فيه الدارسون (والمسلمون) على أن الإسلام يخاطب الفرد وأن المسؤولية فيه فردية، فإن الدارسين قلما تساءلوا عن الهوية المفهومية لهذا ”الفرد“ في القرآن؛ أي اللفظ الدال عليه، مكتفين بالإشارة إليه بلفظ جنيس، هو الإنسان. ولقد تبيّن من الدراسة الحالية أن لفظ ”المرء“، لا ”الإنسان“، هو الذي يشير به القرآن إلى هذا الكيان المفرد أو الشخص. لا ننكر أن ما يوصف به الكائن البشري، في القرآن تحت مسمى المرء، يوصف به أحياناً تحت المسميات الأخرى؛ ولكن ميزة ”المرء“ أنه قد اجتمعت له من معاني الشخص الأخلاقي ما تفرق في غيره من الألفاظ الأخرى المشابهة، خاصة الإنسان والنفس، فضلاً عن اختصاصه بدلالات فريدة بحكم صلته بالمروءة. ومن خلال المقارنة الرئيسية مع لفظ إنسان، بيّنا أن هذا الأخير، وإن كان كثير التوارد في القرآن، إلا أنه يحيل على كيان ميتافيزيقي ذي صفات ماهوية تنحو إلى السلبية (كفران النعمة، الجدل، العجلة..)، أكثر مما يحيل على فاعلية وعلى كيان أخلاقي‫.‬

وإذ يستعمل القرآن لفظ مرء، فهو إنما يستعمل لفظاً يحتاز أصلاً، في الإيثوس ما قبل الإسلامي، نواةً دلالية تتضمن معنى الذاتية الفردية. تتواشج هذه النواة مع أطراف دلالية راسخة بدورها في ذلك الإيثوس؛ منها ما يمدّها بنسغها مثل ”الكينونة-من-أجل-الموت،“ ومنها ما يصِلها بالبيئة الاجتماعية مثل ”الذِكر الحَسن“ والأواصر الأسرية، ومنها أخيراً ما يتفرع عنها مثل ”الكرامة الشخصية.“ ولئن كانت هذه الأطراف الدلالية تغني مفهوم المرء بما هو شخص بالمعنى الحديث، فإن القرآن لا يفتأ يفكك صِلة النواة بتلك الأطراف؛ لأن ما يهمه هو تلك النواة نفسها، لذلك عمد إليها فلفّ حولها معنى جديداً: معنى الفردية الأخلاقية المسؤولة. بهذا يظهر أن ”المرء“ يستحق أن ينضاف إلى قائمة الألفاظ، مثل كرم، كفر، تقوى، شكر..، التي خضعت إلى ما سمّاه إيزوتسو ”التحويل الدلالي“ ‫(semantic transformation)‬، قاصداً بذلك أن القرآن يعمد إلى القيم البدوية ”يتبناها مدمجاً إياها ضمن نسق تعاليمه الأخلاقية، بعد أن يطهرها ويجددها، ويسكب طاقتها ضمن قنوات محددة مُعدّةٍ لها“ ‫(Izutsu 2002a, 75).‬

بقي أن نقول أننا، في تقصينا لدلالات لفظ مرء في القرآن، نظرنا إلى هذا الأخير بوصفه مدونة أو معجماً فرعياً داخل اللغة العربية. يعني ذلك أن المفردات تحافظ فيه على معانيها بشكل منضبط وأن استعمالها يتسم بشيء من النسقية؛ مما يتيح التماس تعاريف للمصطلحات الأخلاقيّة-الدّينيّة الواردة فيه وتحصيل مدلولاتها من خلال استقراء السّياقات النصّية التي ترد فيها والخروج بخلاصات وتعميمات. ولكن ما كان لنا بلوغ مثل هذه التعميمات إلا بمجهود تأويلي ظهر واضحاً طوال هذه الدراسة، اقتضته طبيعة اللغة الدينية، ولغة القرآن مثال ناصع لها. إن القرآن، كما لاحظ حوراني، ”يستعمل عربية زمانه بما هي لغة طبيعية، أو هو بالأحرى يستعملها بشاعرية لا تخلو من عمق دلالي، حيث يقود المعنى الواحد إلى الآخر بفعل انصهار خصب للأفكار المتداعية. قد يزعج العقولَ التحليلية مثلُ هذا الاستعمال الخاص للغة، ولكن لا ينبغي أن يؤخذ القرآن كما لو كان مجرد مصنف للمذاهب الدينية والأخلاقية، بل بحسبانه مصدر استثارة، خصب ولطيف، للمخيلة الدينية“ ‫(Hourani 1985, 56).‬

المصادر والمراجع

  • ابن أبي الخطاب القرشي، أبو زيد محمد. د.ت. جمهرة أشعار العرب، حققه وضبطه وزاد في شرحه علي محمد البجادي. بيروت: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن الجوزي، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن. 1984. نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي. بيروت: مؤسسة الرسالة

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي. 1403هـ/1983. الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد محمد شاكر، تقديم إحسان عباس، ط2. بيروت: دار الآفاق الجديدة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني. 2001. مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، 50ج. بيروت: مؤسسة الرسالة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن دقيق العيد، تقي الدين أبو الفتحـ. 2009. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام.،حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد خلوف العبد الله، 5أجزاء، ط2. دمشق: دار النوادر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن سينا. 1952. الشفاء. المنطق. 1-المدخل، تصدير طه حسين؛ مراجعة ابراهيم مذكور؛ تحقيق الأب قنواتى، محمود الخضيري، وفؤاد الأهواني. القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن سينا. 1964. الشفاء. المنطق. 4-القياس، راجعه وقدم له ابراهيم مذكور بتحقيق سعيد زايد. القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن عاشور، محمد الطاهر. 1984. التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن عبد ربه الأندلسي، شهاب الدين. 1983. العقد الفريد، تحقيق: مفيد محمد قميحة. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن عطية، أبو محمد عبد الحق بن غالب الأندلسي. 1422 هـ. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد. بيروت: دار الكتب العلمية

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر شمس الدين. 1406هـ/1986. الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء، تحقيق: بسام علي سلامة العموش. الرياض: دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر. 1999. تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 8أجزاء، ط2. القاهرة: دار طيبة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل. 1414هـ/1993. لسان العرب، ط3. بيروت: دار صادر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن ميمون البغدادي، محمد بن المبارك. 1999. منتهى الطلب من أشعار العرب، شرح محمد نبيل طريفي. بيروت: دار صادر

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ابن هشام، عبد الملك أبو محمد جمال الدين. 1955. السيرة النبوية، تحقيق، مصطفى السقا وآخران، جزآن، ط2. القاهرة: البابي الحلبي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف أثير الدين. 2010. البحر المحيط في التفسير. تحقيق: صدقي محمد جميل. بيروت: دار الفكر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • أبو العتاهية. 1887. ديوان أبي العتاهية (الأنوار الزاهية في)، جمعه أحد الآباء اليسوعيين نقلا رواية النمري ومشاهير كتب الأدباء. بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • أبو فارس الحمداني. 1994. ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق: خليل الدويهي، ط2. بيروت: دار الكتاب العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الأحمد نكري، عبد النبي بن عبد الرسول. 2000. دستور العلماء: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، 4ج. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الأصفهاني، الراغب. 1412هـ/2009. المفردات في غريب القرآن، ط4. تحقيق: صفوان داوودي. دمشق: دار القلم؛ بيروت: الدار الشامية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • أمين، أحمد. 1969. فجر الإسلام. بحث عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، ط10. بيروت: دار الكتاب العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • البحتري، أبو عُبَادة الوَليد بن عُبَيد. 2007. الحماسة. تحقيق: محمَّد إبراهيم حُوَّر وأحمد محمد عبيد. أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • البخاري، محمد بن إسماعيل. 1422هـ/2001. صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. بيروت: دار طوق النجاة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • البستي، أبو حاتم محمد بن حبان. 1977. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • بشر بن أبي خازم. 1994. ديوان بشر بن أبي خازم، قدم له وشرحه مجيد طراد. بيروت: دار الكتاب العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • البَلَاذُري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود. 1996. جمل من أنساب الأشراف، تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، 13ج. بيروت: دار الفكر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • بنت الشاطئ، عائشة. 1990. التفسير البياني للقرآن الكريم، ط7. القاهرة: دار المعارف‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • بنت الشاطئ، عائشة. 1993؟. مقال في الإنسان: دراسة قرآنية، ط2. القاهرة: دار المعارف‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • بنو بكر. 1989. ديوان بنى بكر في الجاهلية، جمع وشرح وتوثيق ودراسة عبد العزيز نبوي. القاهرة: دار الزهراء للنشر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • البيضاوي، ناصر الدين بن محمد الشيرازي. 1418هـ. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي. بيروت: دار إحياء التراث العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • التوحيدي، أبو حيان علي بن محمد. 1988. البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، 10ج. بيروت: دار صادر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الجابري، محمد عابد. 2001. العقل الأخلاقي العربي: دراسة لمنظومة القيم في الثقافة العربية. القاهرة: مركز دراسات الوحدة العربية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الجرجاني، علي بن محمد بن علي الزين الشريف. 1983. كتاب التعريفات، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الجوهري، إسماعيل بن حماد. 1987. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط4. بيروت: دار العلم للملايين‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الحارث بن حلزة. 1994. ديوان الحارث بن حلزة اليشكري، صنعه مروان العطية. دمشق وبيروت: دار الهجرة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الخطيب، عبد الكريم. 1970. التفسير القرآني للقرآن. القاهرة: دار الفكر العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الخطيب، عبد الكريم. 1975. التعريف بالإسلام في مواجهة العصر وتحدياته، ط2. بيروت: دار المعرفة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الخوارزمي، أبو الوفاء ريحان بن عبد الواحد. 1999. كتاب المناقب و المثالب، تحقيق: إبراهيم صالح. دمشق: دار البشائر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الرازي، أبو عبد الله الملقب بفخر الدين الرازي. 1999. مفاتيح الغيب، ط3. بيروت: دار إحياء التراث العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • زهير بن أبي سلمى. 1988. ديوان زهير بن أبي سلمى، تحقيق: علي حسن فاعور. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • سارتر، جان بول. 1966. الوجود والعدم بحث في الأنطلوجيا الظاهراتية، ترجمة: عبد الرحمان بدوي. بيروت: منشورات دار الآداب‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • السكري، أبو سعيد. 1950. شرح ديوان كعب ابن زهير. القاهرة: دار الكتب المصرية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • السواح، فراس. 2001. الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية. دمشق: دار علاء الدين‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • شاهين، عبد الصبور. د.ت. أبي آدم قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة. القاهرة: دار أخبار اليوم‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الخطيب التبريزي، أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الشيبانيّ. 1987. شرح اختيارات المفضل، تحقيق: فخر الدين قباوة، ط2. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • شحرور، محمد. 1990. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • شحرور، محمد. 2016. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). بيروت: دار الساقي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الشنتمري، يوسف بن سليمان. 1954. أشعار الشعراء الستة الجاهليين، اختيارات من الشعر الجاهلي، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي. القاهرة: مكتبة عبد الحميد احمد حنفي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الشنفري. 1996. ديوان الشنفرى، جمعه وحققه ونشره إميل بديع يعقوب، ط2. بيروت: دار الكتاب العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • شيخو، الأب لويس. 1989. النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، ط2. بيروت: دار المشرق‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الصاحب ابن عباد، أبو القاسم اسماعيل بن عباد. 1994. المحيط في اللغة. تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين. بيروت: عالم الكتب‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • صليبا، جميل. 1982. المعجم الفلسفي. بيروت: دار الكتاب اللبناني؛ مكتبة المدرسة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الطبري، محمد بن جرير. 1387هـ. تاريخ الرسل والملوك. بيروت: دار التراث‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • طرفة بن العبد. 1901. ديوان طرفة بن العبد البكري، اعتني بتصحيحه ونقله إلى اللغة الفرنساوية مكس سلغسون. ‫(Max Seligsohn Paris: Librairie Emile Bouillon).‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • العاني، نزار. 2005. الشخصية الإنسانية في التراث الإسلامي. المعهد العالمي للفكر الإسلامي ‫(IIIT).‬

  • عبد الصبور، صلاح. 1982. “الشاعر يتفلسف.” ضمن: صلاح عبد الصبور، قراءة جديدة لشعرنا القديم، 2755، ط3. بيروت: دار العودة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • العز بن عبد السلام، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي. 2008. تفسير العز بن عبد السلام. علق عليه أحمد فتحي عبد الرحمن، ج 1[جزآن]. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • العقاد، عباس محمود. 1971. موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية: 4-القرآن والإنسان. بيروت: دار الكتاب العربي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • العلامة المصطفوي. 2009. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، 14ج، ط3. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • العلي، جواد. 2001. المفصَّل في تاريخ العَرب قبل الإسلام، ط4. بيروت: دار الساقي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • علي بن أبي طالب. د.ت. ديوان الإمام علي، جمعه ضبطه وشرحه عبد المنعم زرزور. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد. 1975. معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ط2. بيروت: دار الآفاق الجديدة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد. 2016. إحياء علوم الدين، 4ج. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • فخري، ماجد. 1974. تاريخ الفلسفة الإسلامية. نقله إلى العربية كمال اليازجي. بيروت: الدار المتحدة للنشر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الفراهيدي، الخليل بن أحمد. د.ت. كتاب العين. تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي. بيروت: دار ومكتبة الهلال‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • قدامة بن جعفر، أبو الفرج. 1985. جواهر الألفاظ. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الكندي. 1989. “الحدود والرسوم” ضمن: المصطلح الفلسفي عند العرب. نصوص من التراث الفلسفي في حدود الأشياء ورسومها، دراسة وتحقيق وتعليق عبد الأمير الأعسم، 197201، ط2. القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • لبيد بن ربيعة. 2004. ديوان لبيد بن ربيعة العامري، اعتنى به حمدو طمّاس. بيروت: دار المعرفة‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ماكوري، جون. 1982. الوجودية. ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • الماوردي، أبو الحسن علي. 1987. أدب الدين والدنيا. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • مجمع اللغة العربية. 1983. المعجم الفلسفي، تصدير: ابراهيم مذكور. القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • مروة، حسين. 2008. النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية، جزآن، ط2. بيروت: دار الفارابي‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • المعري، أبو العلاء. 1992. رسالة الملائكة، قام بتحقيقه وشرحه وضبطه ومعارضته محمد سليم الجندي. بيروت: دار صادر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • مفضل بن محمد الضبي ابن الأنباري، محمد بن القاسم. 1920. المفضليات، تحقيق: كارلوس يعقوب لايل. بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • النابغة الشيباني. 1932. ديوان نابغة بني شيبان. القاهرة: دار الكتب المصرية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • النيسابوري، نظام الدين الحسن بن محمد. 1416هـ. غرائب القرآن و رغائب الفرقان، تحقيق زكريا عميرات. بيروت: دار الكتب العلمية‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • هارون، عبد السلام. 1992. مجموعة المعاني، 2ج. بيروت: دار الجيل‫.‬

  • الهذليين. 1965. ديوان الهذليين، ترتيب وتعليق: محمّد محمود الشنقيطي، جزآن. القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر‫.‬

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Arkoun, Mohammed. 1989. “Actualité Du Problème De La Personne Dans La Pensée Islamique.” Die Welt des Islams 29: 1129.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Arnaldez, R. 1960–2005. “Insān” in The Encyclopaedia of Islam, Second Edition, edited by P. Bearman, Th. Bianquis, C.E. Bosworth, E. van Donzel and W.P. Heinrichs, 3:12371239. Leiden: Brill.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Attas, Syed Muhammad Naquib. 1995. Prolegomena to the Metaphysics of Islam: an Exposition of the Fundamental Elements of the Worldview of Islam. Kuala Lumpur: ISTAC.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Blachère, Régis. 1975. “Note sur le substantif nafs « souffle vital », « âme », dans le Coran.” In, Analecta, edited by Régis Blachère, 5160. Damascus: Institut Français de Damas. Available at https://books.openedition.org/ifpo/6237.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Boisliveau, Anne-Sylvie. 2014. Le Coran par lui-même. Vocabulaire et argumentation du discours coranique autoréférentiel. Leiden-Boston: Brill.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Bravmann, M.M. 2009 [1972]. The Spiritual Background of Early Islam: Studies in Ancient Arab Concepts, with an introduction by Andrew Rippin. Leiden: Brill.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Chelhod, Joseph. 1957. “La face et la personne chez les Arabes,” Revue de l’histoire des religions 151(2): 231241.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Crone, Patricia. 2013. “The Quranic Mushrikūn and the Resurrection (Part II).” Bulletin of SOAS 76(1): 120.

  • Di Vito, Robert A. 1999. “Old Testament Anthropology and the Construction of Personal Identity,” The Catholic Biblical Quarterly 61(2) (1999): 217238.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Donner, Fred McGraw. 1998. Narratives of Islamic Origins: The Beginnings of Islamic Historical Writing. Princeton: Darwin Press.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Fazlurahman, Malik. 1984. “Some Key Ethical Concepts of the Qurʾan.” Journal of Religious Ethics 11: 170185.

  • Fazlurahman, Malik. 1966, “The Status Of The Individual In Islam.” Islamic Studies (Islamabad) 5(4): 319330.

  • Goldziher, Ignaz. 1967. Muslim studies (Muhammedamische Studien), edited by S.M. Stren, translated by C.R. Barber and S.M. Stern. London: George Allen and Unwin.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Goodman, L.E. 1960–2005. “Al-Rāzī.” in The Encyclopaedia of Islam, Second Edition, edited by P. Bearman, Th. Bianquis, C.E. Bosworth, E. van Donzel and W.P. Heinrichs, 7:474477. Leiden: Brill.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Homerin, T. Emil. 1985. “Echoes of a Thirsty Owl: Death and Afterlife in Pre-Islamic Arabic Poetry.” Journal of Near Eastern Studies 44(3): 165184.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Hourani, George. 1985. “‘Injuring Oneself in the Qurʾan, in the Light of Aristotle.” In Reason and Tradition in Islamic Ethics, edited by George Hourani. Cambridge and New York: Cambridge University Press.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Izutsu, Toshihiko. 2002a. Ethico-Religious Concepts in the Qurʾān. Montreal: McGill-Queen’s University Press.

  • Izutsu, Toshihiko. 2002b. God and Man in the Quran. 2nd ed. [Second reprint 2008]. Petaling Jaya, Malaysia: Islamic Book Trust.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Kant, Immanuel. 1996. The Metaphysics of Morals. Cambridge: Cambridge University Press.

  • Kant, Immanuel. 1997. Groundwork of the Metaphysics of Morals. Cambridge: Cambridge University Press.

  • Lalande, Andre. 1997. Vocabulaire technique et critique de la philosophie, vol. 2. 4th ed. Paris: Puf/Qudrige.

  • Locke, John. 1975 [1690]. An Essay Concerning Human Understanding, edited by Peter H. Nidditch. Oxford: Clarendon Press.

  • Natij, Salah. 2017. “Murūʾa: Soucis et interrogations éthiques dans la culture arabe classique,” 1st part. Studia Islamica 112: 206263.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Natij, Salah. 2018. “Murūʾa: Soucis et interrogations éthiques dans la culture arabe classique,” 2nd part. Studia Islamica 113(1): 155.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Netton, Ian. 1966–2002. “S̲h̲ak̲h̲ṣṣEncyclopaedia of Islam, Second Edition, edited by P. Bearman, Th. Bianquis, C.E. Bosworth, E. van Donzel and W.P. Heinrichs, 9:247248. Leiden: Brill.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Raffoul, François. 2010. The Origins of Responsibility. Bloomington: Indiana University Press.

  • Smith, Jane Idleman and Yvonne Yazbeck Haddad. 2002. The Islamic Understanding of Death and Resurrection. Oxford: Oxford University Press.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Watt, Montgomery. 1953. Muhammad at Mecca. Oxford: Clarendon Press.

  • Watt, Montgomery. 1967. “Pre-Islamic Arabian Religion in The Qurʾan.” Islamic Studies (Islamabad) 15(2): 7379.

*

أتوجه بجزيل الشكر إلى المحكميْن اللذين توليا مراجعة مسودة هذه المقالة. وإنهما واجدان هنا بالتأكيد آثارا بيّنة لكثير من مقترحاتهما وتصويباتهما القيمة التي خصّا بها هذا العمل‫.‬

1

ليس صدفة أنْ دار الجدل الكلامي على الفاعل أولاً (مخيّر أم مسيّر) قبل أن يتناول القيم نفسها (الحسن والقبح عقليان أم شرعيان)؛ إذ ”تجمع المصادر على أن أول قضية تجريدية دارت حولها المناقشات الكلامية الأولى كانت قضية التخيير والتسيير أو مسألة القدر.“ (فخري 1974، 77)؛ و“تتوفر لدينا الشواهد التاريخية الكثيرة على أن البحث في مشكلة القضاء والقدر، عند المفكرين العرب والإسلاميين بعامة، قد ظهر كبحث فكري يرتبط بمسؤولية الإنسان - الفرد عن فعله“ (مروة 2008، 91/2، التشديد مني)‫.‬

2

تماثل مقاصدنا في هذا البحث مقاصد روبرت ديفيتو في مقالته ”أنثروبولوجيا العهد القديم وبناء الهوية الشخصية“. يُنظر‫: Di Vito 1999.‬

3

أو اثنتا عشرة مرة، لأن البيضاوي ذكر في تفسير ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر: 4)، قال: ”وقرئ ﴿من كل امرئ﴾ [بدل ﴿من كل أمر﴾] أي من أجل كل إنسان“ (البيضاوي 1418هـ، 327/5). وبغية التبسيط، كلما ذكرنا في هذا البحث ”مرء“ فإننا نقصد ”امرئ“ و“امرؤ“ أيضا‫.‬

4

قال ابن دقيق العيد عن لفظ مرء: ”ولا يكسر هذا الاسم، ولا يجمع جمع السلامة، لا يقال: أمراء، ولا أمرؤ، ولا مرؤون، ولا أمارئ.“ يُنظر: ابن دقيق العيد 2009، 190/3‫.‬

5

من مثبتي هذا النسب المعري: ”المرء، والله اعلم، من المروءة والمعنى في ذلك أن المرء، وهو الواحد من بني آدم، يتميز بفعله من أصناف الحيوان.“ (المعري 1992، 158)؛ وكذلك برافمان الذي ينبهنا إلى استخدام مهجور للفظ مرء، حيث كان يُذكر قبل اسم العَلم كما عند الأعشى (المرء نوح)، البحتري (المرء تُبّع)، الطبري (المرء كسرى)، وابن هشام (المرء أحمد [النبي]). ويعتقد برافمان أن كلمة مرء في هذه المواضع تعني ”ذا المروءة“، وأن المعنى المجرد لكلمة مروءة قد اشتق من مرء بهذا الاستعمال‫. (Bravmann 2009, 1, note 1).‬

6

مما يدل على اتساع الدلالات الأخلاقية للمروءة أن ابن حبان البستي (ت. 354هـ/965م) استعرض لها حوالي 30 تعريفا (البستي 1977، 229–234)‫.‬

7

من محاولات تقسيم ”الشغل“ الدلالي بين الألفاظ الدالة على الكائن البشري، نذكر محاولة عبد الصبور شاهين للتمييز بين ”بشر“ و“إنسان“ من أجل إفساح مجال لفكرة التطور ضمن قصة الخلق القرآنية. يُنظر: شاهين [د. ت.]،101–74. كذلك تعتمد أعمال محمد شحرور على إنكار الترادف وإعادة توزيع الدلالة بين مفاهيم مثل الكتاب والذكر والتنزيل..، أو الإسلام والإيمان … يُنظر: شحرور 1990؛ شحرور 2016‫.‬

8

نقرأ في المعجم الفلسفي لجميل صليبا: ”وقد غلب إطلاقه [الشخص] بعد ذلك على الإنسان، أي على الموجود الذي يشعر بذاته، ويدرك أفعاله، ويُسأل عنها، وهو بهذا المعنى مقابل للشيء العيني الخالي من العقل والاختيار“ (صليبا 1982، 689)؛ ويقول المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية: ”شخص: الذات الواعية لكيانها المستقلة في إرادتها الحرة في تصرفاتها (…) ومنه الشخص الأخلاقي ‫personne morale.‬ وهو من توافرت فيه صفات تؤهله للمشاركة العقلية والأخلاقية في مجتمع إنساني، بحيث تجعله يميز بين الحق والباطل والخير والشر.“ (المعجم الفلسفي 1983، 101)‫.‬

9

“… what he calls self; and thereby distinguishes himself from all other thinking things, in this alone consists personal Identity.”

10

‫﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾‬ (الأنعام: 164)؛ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ (الإسراء: 70)‫.‬

11

‫”‬شخص: الذات الواعية لكيانها المستقلة في إرادتها الحرة في تصرفاتها، وإذا أطلق على الله قيل: الذات“ (المعجم الفلسفي 1983، 101)‫.‬

12

مثلا: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الأنعام: 94)؛ ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ (الأحزاب: 72)‫.‬

13

انظر القسم الأخير من دراستنا بعنوان ”مرء ونفس وشخص‫.“‬

14

يتعلق الأمر بآية ﴿بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشّرة﴾ (المدثر: 52)، والتي سنقدم لها إطارا تأويليا يتيح تفسير سبب ورود لفظ مرء فيها‫.‬

15

من هذه القواعد: استثمار التعريف الصريح للمفردة إن وجد، استثمار ورود الكلمة وضدها، استثمار تعويض القرآن لمفردة في سياق تعبيري آخر مشابه… يُنظر‫: Izutsu 2002a, 37–41.‬

16

غالبا ما يتغاضى المفكر المسلم عن الوجه الثاني للعملة الإنسانية في القرآن، مكتفيا بالتركيز على التشريف والتكريم وخلافة الله والسيادة على الطبيعة، منتقدا مثلا ”تلك النظرات المريضة المتشائمة التي تنظر بها الفلسفات الحديثة إلى الإنسان والتي تراه أتعس المخلوقات وأشقاها، وأنه حشرة حقيرة“ (الخطيب 1975، 96)‫.‬

17

ربما وُجدت، في وقت ما، قراءات أو رسم في مصاحف تفيد الطابع القبْلي للخسران المذكور في السورة. فبحسب ابن عطية ، وُجدت ”في مصحف عبد الله: ’والعصر لقد خلقنا الإنسان في خسر‘“ (ابن عطية 1422هـ، 520/5)‫.‬

18

انظر مثلا: الإسراء: 67، 83، 100؛ الكهف:54؛ مريم: 66؛ الحج: 66؛ البلد: 4–5؛ النحل: 4. ويسجل إيزوتسو عرَضاً فساد الطبيعة الإنسانية، لكن من دون أن يستشكل الأمر. فهو يرى أن شكر النعمة مثلاً مبدأ أخلاقي أوّلي، إلا أن احتمال خرقه يظل قائما، ويضيف: ”يبدو أن الطبيعة الإنسانية، للأسف وفي الغالب الأعم، تدفع في هذا الاتجاه [كفران النعم]. وكما يقول القرآن نفسه ’إن الإنسان لربه لكنود‘“ ‫(Izutsu 2002b, 256).‬

19

‫﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾‬ (الأعراف: 172)‫.‬

20

لم توضّح الآية طبيعة الأمانة، فذهب المفسرون إلى أن المراد بها الطاعة أو العقل أو التكليف. يُنظر: البيضاوي 1418هـ، 240/4‫.‬

21

حاول مفسر مثل بن عاشور تفسير ”الظلم“ بردّ علته إلى عدم وفائه بالأمانة لاحقاً، لا إلى نهوضها بحملها ابتداءً، قبل أن يعود فيقول: ”ويجوز أن يراد ظلوما جهولا في فطرته“ (بن عاشور 1984، 130/22)‫.‬

22

يبدو أن هذا هو التأويل الذي تبناه بعض مفكري الإسلام؛ وإن بتأثير من مصادر خارجية مثل الأفلوطنية والغنوصية. فبالنسبة إلى ابن زكريا الرازي مثلا، بدأ هذا الوجود الأرضي المادي عندما افتتنت النفس، عن جهل، بالمادة وتلبّست بها، فشَقَتْ، لولا أن تعهدتها رحمة الله بمنحة العقل لإصلاح هذا ”التهور الجاهل“. للمزيد عن نظرية الرازي، ُينظر‫: Goodman 1960–2005.‬

23

نقول ذلك لأن للجهل (في ”جهولاً“) ثلاثة أوجه حسب الراغب الأصفهاني: خلو النفس من العلم، اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحاً أم لا. يُنظر: الأصفهاني 2009، 209‫.‬

24

يذكرنا ذلك بالصورة التي ترسمها الوجودية للإنسان المقذوف به في العالم (سارتر 1966، 161)، أو بالإنسان واهن الخِلقة، المُعْرض – مع ذلك – عن الله كما عند باسكال‫.‬

25

ولذلك استعمل الفلاسفة المسلمون لفظ إنسان بدل مرء، وإنسانية بدل مروءة؛ لأن عمومية وتجريد اللفظ الأول مناسبة لعمومية الخطاب الفلسفي وطابعه التجريدي. يُنظر القسم الأخير من هذه الدراسة‫.‬

26

بحسب فراس السواح (السواح 2001) يتبنى الإسلام، بوصفه دينا توحيدياً، ”ثنوية أخلاقية تقصر تناقض الرحمن والشيطان على المجال الأخلاقي والمجتمع الإنساني من دون بقية مظاهر الوجود“ (8) ، ولكن تتميز ثنويته الأخلاقية هذه ب ”أن الشيطان ليس مبدأ كونيا للشر“ (278)، و”أن دور الشيطان كوكيل للشر وحافز عليه دور ثانوي“ (280)، و”أن الشر لا يصدر عن إبليس بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الواعية والحرة والمسؤولة“ (292)‫.‬

27

ورد في شرح هذا البيت: ”وقيل: بل معناه لو أخرج من البشرية إنسان، ونسب إلى الجن، لِما مُنح من الحسن، لكانت هذه. وهذا مبني على ما يقوله العامة من حسن الغيلان“ (الخطيب التبريزي، 520/1)‫.‬

28

حتى عندما نفقت سوق لفظ إنسان ومشتقاته، بعد ظهور الإسلام وبتأثير من المثاقفة، اضطر أبو حيان التوحيدي إلى الإقرار بأن ”الإنسانية لم تُسمع من العرب لكنها مقيسة بالتوليد من كلامهم“ (التوحيدي 1988، 95/5)‫.‬

29

“individualité autonome et responsable de ses actes”, cf. Natij 2017, 216‫.‬

30

حول مفهوم الموت في الفلسفة الوجودية، ومفهوم الوجود-نحو-الموت، وكون الموت هو الإمكان الأعلى للوجود الإنساني، ينظر: ماكوري 1982، 219–213، وبخاصة 216‫.‬

31

عقد البحتري (البحتري 2007، 219–204) أبوابا لما قيل في من تمنَّى البقاء وطال عمرهُ، في اليأس من البقاء وحذر الموت، في التبرُّم بالحياة، وفي تحكيم الدهر. ونلاحظ أن أكثر الألفاظ تواردا فيها ”المرء“ وأقل منه ”الفتى“ ثم ضمير المتكلم‫.‬

32

يترجم إيزوتسو لفظ ”مرء“ في هذا البيت ب ‫(man)‬ بكل بساطة، وكذلك يفعل كلما صادف هذا اللفظ. أنظر كذلك ‫(Izutsu 2002b, 56, 63).‬

33

حول مفهوم الفردية عند الوجوديين، يّنظر ماكوري 1982، 83‫.‬

34

بخصوص إنكار الجاهليين للبعث ومن ثم للحساب، حتى جاء أكثر جدال القرآن معهم في أمور المعاد والنشور، يُنظر: العلي 2001، الصفحة 11 وكذا الصفحة 123 وما بعدها. كذلك يحلل جواد علي (ص 190 وما بعدها) الشعر المنسوب إلى امرئ القيس الذي يتحدث فيه عن الله والإثم والتمسك بحبل الله وحمده … ويشكك في صحة نسبته إليه، وإلا ينبغي أن نعده مسلما موحدا‫!‬

35

لم يُثبت مكس سلغسون، محقق الديوان، هذا البيت ضمن أشعار طرفة، بل في ”ذيل“ بعنوان ”أبيات منفردة منسوبة إلى طرفة.“ يُنظر 1901، 148‫.‬

36

في مادة مرأ ضمن مؤلفه المكرس لمفردات القرآن، ينصرف الراغب الاصفهاني مثلا إلى مروءة بدل مرء: ”والمروءة: كمال المرء، كما أن الرجولية كمال الرجل“ (الأصفهاني 2009، 766)‫.‬

37

‫﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت﴾‬ (آل عمران: 185)؛ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ﴾ (النساء: 78). ويرى إيزوتسو أن ”من الواضح أن الإسلام والجاهلية يتفقان في إعلان تفاهة الحياة وفراغها وزوالها، وإن كانا يستخلصان من ذلك نتيجتين متناقضتين تماما“ ‫(Izutsu 2002a, 50).‬

38

لا يُظهر المفسرون اهتماما بلفظ ﴿مرء﴾ في سورة عبس، فهو ولفظ ”إنسان“ سواء، يُستبدل أحدهما بالآخر في كلام المفسر. يُنظر مثلا: أبو حيان الأندلسي 2010، ‫411/10–410.‬

39

نجد مثل هذا المعنى في العبارة الفرنسية القائلة: سيُمضي التاريخ حكمه ‫L’Histoire jugera.‬

40

تشكل ”أعماق السريرة“ ‫(inner depths)‬، حسب ديفيتو، أحد عناصر أربعة مشكلة للمفهوم المعاصر للذات، والتي قرأ في ضوئها تصور العهد القديم للشخص. يُنظر‫: Di Vito 1999, 220–221, 231–234.‬

41

مثلا: التغابن: 4؛ البقرة: 284؛ غافر: 19؛ الفتح: 18‫.‬

42

قال النيسابوري: ”اختلف الناس فيه [في أمر الآية] بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر“ (النيسابوري 1416هـ، 389/3)؛ أما عن المقصود بالقلب وبالحيلولة وعن دلالة الآية على الجبر أو الاختيار فيُنظر مثلا الرازي 1999، ‫472/15–473.‬

43

يُنظر ما سنذكره أدناه عند جورج حوراني في الهامش رقم ‫55: (a single person’s mind is a unity).‬

44

لا يداني هذا المعنى الفريد إلا آية أخرى، يدور محورها على عظمة فعل الخلق: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: 21)‫.‬

45

يشبه ذلك ما ورد في حديث نبوي، يخاطب فيه الرسول أبا ذر الغفاري، الذي كان قد عيّر رجلا بأمه، قائلا: ”إنك امرؤ فيك جاهلية“ (البخاري 1987، 19/8، حديث رقم 6050). فكأن الرسول هنا يوقفه على الفارق الكبير بين الحسن الذي في مروءته والقبح الذي في فعلته‫.‬

46

أثار لوك بدوره مسألة استمرارية وعي الشخص بين الدنيا والآخرة. يُنظر‫: Locke 1975, 86, 340.‬

47

ذكر ابن كثير في تفسيرها: ”أي: بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتابا كما أنزل على النبي. قاله مجاهد وغيره، كقوله: ’وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‘..“ ينظر: ابن كثير 1999، 274/8‫.‬

48

بهذا يكون ”المرء“ شخصا ذا قيمة مباطنة ‫(Intrinsic Value)‬ وبالتالي ذاتا أخلاقية بمعنى أوسع مما يدل عليه مصطلح ”مكلف“ عند الفقهاء، والذي لا يفيد سوى الذات الأخلاقية من حيث هي ملزمة بواجبات‫.‬

49

ليست المروءة مجرد طلب زيادة، بل هي أيضا حذر من نقصان، وذلك بتجنب خوارم المروءة. وهذا ما بيّنه الماوردي في تفصيله لحقوق المروءة وشروطها، وتحديدا عند ذكر الحقوق التي يعود أثرها على النفس، وهي: العفة والنزاهة والصيانة. وكلها دائرة على معنى صون النفس. يُنظر: الماوردي 1987، 280 وما بعدها؛ ويظهر اقتران المروءة بصون الكرامة الشخصية أيضا في موقف الفضل بن يحيى عندما عتب عليه الرشيد ترْك الشرب معه ومنادمته، فأجابه: ” لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته.“ يُنظر: الطبري 1387 هـ، 293/8‫.‬

50

نبّه برافمان أيضا إلى معنى السيادة هذا والذي صار مهجورا. ينظر أعلاه هامش رقم 5‫.‬

51

يلاحَظ الوعيد بالصغار، نقيض العزة والكرامة، في الآية: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ﴾ (الأنعام: 124)‫.‬

52

ونفس المعنى في: البقرة: 233؛ المؤمنون: 62؛ الأنعام: 152؛ الأعراف: 42؛ الطلاق: 7‫.‬

53

يذكر ابن قيم الجوزية أن كثيراً من الناس يرون أن ”لابن آدم ثلاث أنفس نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة،“ ولكنه يعقّب قائلا ”والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم“ (ابن قيم الجوزية 1986، 665)‫.‬

54

وكذلك ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)؛ ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ (النازعات: 40)؛ ﴿الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ (الزمر: 53)؛ ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ (الكهف: 28)؛ ﴿مَنْ سَفِهَ نَفْسَه﴾ (البقرة: 130)‫.‬

55

استشكل جورج حوراني، في بحث صغير ‫(Hourani 1985, 49–56)‬، مسألة الهوية هذه. فهو يرى، اعتمادا على أرسطو، أن الظلم، بالمعنى الأخلاقي، يستلزم وجود طرفين: فاعل يقع منه الظلم قصداً ومنفعل يقع عليه كرهاً، والحال أن عقل الشخص وحدة لا تتجزأ ‫(a single person’s mind is a unity) (Hourani 1985, 50–54).‬

56

وعندما نتصفح كتب الأخلاق المنتمية إلى ما سماه الجابري (الجابري، 2001، 491 وما بعدها) ”الموروث العربي،“ الذي مداره على مفهوميْ المروءة والمكارم، نجدها تستعمل لفظ مرء أكثر من غيره، وذلك في الفصول المخصصة للعقل (ينُظر مثلا: الخوارزمي 1999؛ البستي 1977)‫.‬

57

استخدم شعراء الجاهلية لفظ شخص بمعنى هيئة الإنسان وجسمه. مثلا، زهَير بن أبي سلمى: ”فَبَينا نُبَغّي الصَيدَ جاءَ غُلامُنا ** يَدِبُّ وَيُخفي شَخصَهُ وَيُضائِلُه“؛ طَرَفَة بن العبد: ”وَكَم مِن فَتىً ساقِطٍ عَقلُهُ ** وَقَد يُعجَبُ الناسُ مِن شَخصِهِ‫.“‬

58

يرد في القرآن لفظان من جذر شخص: ﴿شاخصة﴾ (الأنبياء: 97) و﴿تشْخَص﴾ (إبراهيم:42)، وكلاهما بمعنى ”أجفانهم لا تطرف“ (الأصفهاني 2009، 447)‫.‬

59

نقرأ في صحيح البخاري (البخاري، 9:123): ”باب.. لا شخص أغْيرُ من الله“، ولكن ورود اللفظ هنا إشكالي؛ لأن الحديث الذي تحت هذا الباب مباشرة (رقم 7416) يقول: ”لا أحد أغير..“ وكذلك في الحديثين رقميْ 3634 و4637، وبصيغة ”لا أحد أغير..“ في الحديث رقم 5222. وبصفة عامة، يتضح من النقاش اللاحق حول لفظ ”شخص“ في هذا الحديث أن ”شخص“ يعني الجسمية والتعيّن وهو ما يوافق عامة مذهب أهل الحديث؛ بدليل قول عبد الله بن أحمد بن حنبل (رقم 18169): ”ليس حديثٌ أشدَّ على الجهميَّة مِن هذا الحديث“ (ابن حنبل 2001، 30: 105)‫.‬

60

يقول ابن حزم مثلاً: ”أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر.“ (ابن حزم 1983، 16/1)‫.‬

61

إن مزاحمة ”الإنسانية“ لـ ”المروءة“ في الفكر الإسلامي، تمهيداً للحلول محلها، ظاهرة طريفة تستحق الدراسة، ويمكن تتبعها وهي تجري عبر التاريخ، كالآتي: بدايةً، لا أثر عند الفراهيدي (ت. 170هـ/786م) للإنسانية عند تعريف المروءة: ”والمُرُوءةُ: كمالُ الرُّجوليّة“ (الفراهيدي [د.ت.]، 299/8)؛ وبعد قرنيْن، يتفرق أصحاب القواميس: فعلى حين يستمر الصاحب بن عباد (ت. 385هـ/995م) في القول: ”والمُرُوْءَةُ : كَمَالُ الرَّجُلِيَّةِ“ (ابن عباد 1994، 281/10)، تظهر ”الإنسانية“ فجأة عند معاصره الجوهري (ت. 393هـ/1003م): ”والمُروءَةُ: الإنسانية“ (الجوهري 1987، 72/1)، ثم يأتي المعري (ت. 449هـ/1057م) بعد ثلاثة قرون من الفراهيدي، معبّراً بوضوح عن تأثير الفلسفة، ليجعل ”الإنسانية“ دالة على الأفعال الجميلة: ”… كما تقول في فلان انسانية أي يفعل أفعالا جميلة“ (المعري 1992، 158). هذا، مع العلم أن الإنسانية في الأصل، عند الكندي مثلا، لم تكن تعني سوى ”الحياة والنطق والموت“ في مقابل البهيمية التي هي ”الحياة والموت.“ يُنظر: الكندي 1989 ، 203‫.‬

62

لجوزيف شلهود ‫(Chelhod 1957, 237, note 1)‬ رأي آخر؛ ففي نظره أن لفظ ”الشخص“ إنما حل محل ”الوجه“ الذي كان يعني عند العرب ”الشخص البشري“ لما له من وجاهة ومركز اجتماعي وكرامة‫.‬

Content Metrics

All Time Past Year Past 30 Days
Abstract Views 0 0 0
Full Text Views 142635 46877 823
PDF Views & Downloads 70560 19684 796